خبراء يرصدون دور "المخزن العلوي" في مواجهة ندرة المياه عبر التاريخ
شهدت الجلسة العلمية الأولى ضمن فعاليات الدورة السابعة والعشرين لجامعة مولاي علي الشريف، المنظمة تحت الرعاية الملكية السامية، مناقشات علمية ثرية حول قضايا الماء في الواحات المغربية، مع التركيز على الفترة التاريخية الممتدة من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر.
وقد شكلت هذه الجلسة، المنظمة مساء الجمعة، منصة مهمة لتسليط الضوء على العديد من الجوانب المتعلقة بتدبير الموارد المائية في منطقة تافيلالت، ودور المخزن العلوي في إدارة الأزمات المائية، فضلا عن التراث المائي الثقافي والحرف المرتبطة بهذا المورد الحيوي.
وفي هذا السياق، أكد مبارك الطايعي، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، في مداخلته، أن البنيات الهيدروفلاحية في تافيلالت تطورت عبر التاريخ نتيجة لتدخلات متتالية، منذ تأسيس سجلماسة في القرن الثامن الميلادي.
وأشار إلى أن هذه البنيات شهدت تحولات مهمة في فترتي القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر، حيث ساهم ملوك الدولة العلوية في تحسين البنيات المائية والزراعية لضمان استمرارية الزراعة في الواحة. وقد كانت هذه التدخلات حاسمة في تشكيل الصورة الحالية للبنيات الزراعية الموروثة، والتي تعتمد بشكل كبير على نظم تقليدية لاستغلال وتوزيع المياه، مثل الخطارات والسواقي.
من جهة أخرى، أوضحت خولة سويلم، أستاذة باحثة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة القاضي عياض بمراكش، أن المخزن العلوي لعب دورا محوريا في تدبير الأزمات المائية خلال القرن التاسع عشر، خاصة في ظل تقلبات المناخ المتكررة التي أدت إلى فترات طويلة من الجفاف والمجاعات.
وتطرقت خولة سويلم إلى كيفية إدراك المخزن لأهمية الماء في استقرار المجتمع، حيث اتخذ مجموعة من الإجراءات التي هدفت إلى تنظيم توزيع المياه وضمان استمرارية الإنتاج الزراعي، مضيفة أن هذه التدابير اعتمدت على تقنيات تقليدية مثل السواقي والخطارات، وكانت تهدف بالأساس إلى تحقيق استقرار اجتماعي واقتصادي في المناطق المتضررة.
في مداخلة أخرى، ركزت حنان حمودا، أستاذة الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس الرباط، على البعد الثقافي والتراثي للماء في الواحات المغربية، مشيرة إلى أن الماء ليس مجرد مورد طبيعي؛ بل يشكل قيمة اجتماعية ورمزية عميقة مرتبطة بالهوية المحلية لسكان الواحات.
واستعرضت حمودا الأنظمة التقليدية لتدبير الندرة المائية، مثل الخطارات والسواقي، التي تعكس ديناميات اجتماعية قائمة على التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع الواحي، مؤكدة أنه رغم التحديات المناخية المتزايدة فإن هذه الأنظمة لا تزال جزءا لا يتجزأ من التراث المادي واللامادي لهذه المجتمعات، حيث تعتبر رمزا للتكيف مع الظروف البيئية الصعبة.
من جانبه، تناول امبارك بوعصب، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة الرباط سلا القنيطرة، الحرف التقليدية المرتبطة بالماء في الواحات المغربية، مثل التنقيب عن المياه وحفر الآبار وتوزيعها عبر السواقي.
وأوضح المتدخل ذاته أن هذه الحرف، التي تطورت عبر الأجيال، تعكس تفاعل الإنسان مع بيئته القاسية، حيث أبدع تقنيات مبتكرة لاستخراج المياه الجوفية وتوزيعها بشكل عادل لضمان استفادة الجميع، مستعرضا بعضا من أهم هذه الحرف التي تشكل جزءا مهما من التراث المادي واللامادي للواحات وتعكس مهارة ومعرفة الإنسان الواحي في تدبير موارده المائية المحدودة.
أما في المداخلة الأخيرة، فقد تناول عبد الرزاق السعيدي، أستاذ التاريخ والحضارة بكلية الآداب جامعة شعيب الدكالي الجديدة، موضوع نظام الخطارات والسواقي في واحة تافيلالت، وخاصة في منطقة الجرف، معتبرا هذا النظام نموذجا فعالا لتدبير الموارد المائية الشحيحة.
وأوضح المتحدث ذاته كيف يعتمد هذا النظام على استخراج المياه الجوفية وتوجيهها عبر شبكة معقدة من السواقي لتوزيعها بشكل منظم على الأراضي الزراعية، مشيرا إلى أن هذا النظام يعكس حكمة قديمة ومرونة اجتماعية في التعامل مع ندرة المياه، وقد ساهمت الدولة المغربية في العصر الحديث، خاصة في عهد السلطانين محمد الخامس والحسن الثاني، في إحياء هذا النظام وتطويره لضمان استمرارية التنمية الزراعية في الواحات.
في ختام الجلسة، أجمع المشاركون على أن استمرارية الحياة في الواحات المغربية، خاصة في منطقة تافيلالت، كانت ولا تزال تعتمد بشكل كبير على نظم مائية تقليدية مثل الخطارات والسواقي، مؤكدين أن هذه النظم ليست مجرد تقنيات للري؛ بل هي جزء من تراث ثقافي واجتماعي يعكس تفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية القاسية، مشيرين إلى أن تدخلات المخزن العلوي عبر التاريخ، إلى جانب جهود الدولة المغربية الحديثة، ساهمت في تحسين هذه النظم وضمان استدامتها؛ مما جعلها تلعب دورا محوريا في استمرارية الحياة الزراعية والاجتماعية في الواحات، ومع تصاعد التحديات البيئية والمناخية في الوقت الحالي، بات من الضروري إعادة النظر في هذه الأنظمة المائية التقليدية وتطويرها لمواجهة نقص الموارد المائية وندرتها المتزايدة.
المداخلات أكدت أن الحفاظ على هذا التراث المائي والاهتمام به ليس مسألة تاريخية فقط؛ بل ضرورة ملحة في ظل التغيرات المناخية التي يشهدها العالم اليوم، والتي تؤثر بشكل مباشر على المناطق الهشة مثل الواحات.. وبالتالي، فإن إعادة إحياء الأنظمة التقليدية مثل الخطارات والسواقي، ودمجها مع التقنيات الحديثة، هو مسار حتمي لتحقيق التنمية المستدامة وضمان الأمن المائي في هذه المناطق.
كما شدد المتدخلون على أهمية التكامل بين الجهود الرسمية والمبادرات المحلية في إدارة الموارد المائية. فعلى مر التاريخ، كانت المجتمعات المحلية قادرة على إيجاد حلول مبتكرة للتكيف مع ندرة المياه عبر تقنيات تقليدية؛ ولكن اليوم، ومع التغيرات المناخية الحادة، فإن تدخلات الدولة أصبحت أكثر ضرورة لضمان استمرارية هذه الأنظمة وتطويرها بما يتماشى مع التحديات الراهنة.