د. نيفين النصيري تكتب: «الخواجاية» لفيموني عكاشة.. رحلة استكشافية عميقة بين الشخصي والعام - سبورت ليب
عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع سبورت ليب نقدم لكم اليوم د. نيفين النصيري تكتب: «الخواجاية» لفيموني عكاشة.. رحلة استكشافية عميقة بين الشخصي والعام - سبورت ليب
نشر في: الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 6:38 م | آخر تحديث: الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 6:38 م
«الخواجاية» (الصادرة عن دار الشروق) سيرة روائية غنية ومتعددة الأبعاد، تحمل فى طياتها مزيجًا فريدًا من التجارب الشخصية والتحليل الثقافى، مما يجعلها عملًا أدبيًا مميزًا. تتنقل السيرة بين الذات والآخر، بين الحاضر والماضى، لتكشف عن طبقات عميقة من الهوية والتفاعل الثقافى. تستعرض الكاتبة رحلة إنسانية مفعمة بالصراعات الداخلية والتحديات الثقافية، خاصة فى سياق التفاعل بين الثقافات الغربية (الهولندية) والشرقية (المصرية). مما يجعلها دراسة اجتماعية وسيكولوجية للنزاع الداخلى بين الاندماج والاحتفاظ بالهوية الأصلية. تتخذ فيمونى من سيرتها الذاتية ومن حياة والدتها «جيردا» الهولندية المقيمة فى مصر بعد زواجها من أنور مهندس النسيج المصرى، أداة لفحص أعمق لأبعاد الهوية، والاندماج الثقافى، والعلاقات الإنسانية. كما نستكشف من خلال الحكايات الشخصية لجيردا التحولات الاجتماعية والثقافية التى شهدتها مصر منذ فترة الحرب العالمية الثانية وحتى عصر ما بعد الثورة.
السيرة الذاتية والأبعاد الإنسانية
تبدأ الرواية بسرد تفاصيل دقيقة عن حياة والدتها جيردا، التى انتقلت من هولندا إلى مصر للزواج من أنور عكاشة، مشيرة إلى تحدياتها فى التأقلم مع ثقافة جديدة وسياق اجتماعى مختلف. تقدم فيمونى صورة لامعة عن الشخصية الإنسانية التى تتمتع بالقدرة على التكيف والتعاطى مع القيم والعادات المجتمعية الجديدة، كما تسلط الضوء على حبها العميق للموسيقى التى كانت ملاذًا لها فى الأوقات الصعبة. من خلال هذه التجربة، يعكس النص قدرة الإنسان على بناء هوية جديدة فى سياق ثقافى مغاير، وقدرة العلاقات الإنسانية، مثل علاقة جيردا بزوجها وأطفالها، على تشكيل مسارات الحياة. فى أحد الأمثلة، تصف فيمونى كيف كانت والدتها تواجه صعوبات فى تعلم اللغة العربية والتعامل مع العادات والتقاليد المحلية، ما يعكس الصراع الداخلى بين الرغبة فى الاندماج والاحتفاظ بالهوية الأصلية. وتبرز أيضًا علاقة جيردا بالموسيقى كوسيلة للهروب والتكيف، حيث كانت تقضى ساعات طويلة تعزف على التشيلو فى محاولة لخلق جو من الراحة النفسية.
أسلوب يجمع بين الواقع والخيال، الشخصى والعام، الماضى والحاضر
أسلوب السرد دقيق ومشحون بالعواطف، كما يتسم بالشفافية والحساسية، مع لحظات من الجرأة. هذه الديناميكيات بين الأم وابنتها، والمشاعر المتضاربة التى تنتج عن التباين الثقافى، تعكس صراعات نفسية داخليّة، وتثير تساؤلات حول مفهوم الهوية والانتماء فى عالم متغير. إن فحص العلاقة بين فيمونى ووالدتها جيردا يُبرز أيضًا كيف أن الذكريات، بالرغم من أنها مليئة بالألم، تظل تمثل مصدرًا للتواصل والتفاهم بين الأجيال. كما تقوم الكاتبة بتوظيف حكايات خالتها هيلدا لاستكمال الفجوات فى قصة والدتها، مما يتيح لها استكشاف جوانب جديدة من شخصية جيردا ويمنح الرواية بعدًا سرديًا غنيًا. فيمونى لا تكتفى بعرض صراع والدتها فى التكيف مع المجتمع المصرى، بل تذهب أبعد من ذلك لتطرح أسئلة فلسفية حول الانتماء والهوية، وكيفية بناء الذات وسط تضارب القيم الثقافية. وبينما تستعرض فيمونى الأحداث التاريخية التى أثرت فى الحياة اليومية، فإنها تدير أيضًا حوارًا مع التحولات الاجتماعية من مرحلة إلى أخرى، بدءًا من الحرب العالمية الثانية، مرورًا بحقب ما بعد الاستقلال والاقتصاد الاشتراكى، وصولًا إلى ثورة 25 يناير 2011. هذه التحولات تسلط الضوء على كيفية تأثر الهوية الشخصية بالنواحى السياسية والاجتماعية فى المجتمع.
كما تجمع «الخواجاية» بين عناصر السيرة الذاتية والرواية، مما يُضفى عليها عمقًا إضافيًا. تمزج فيمونى بين السرد الشخصى والتفاصيل الروائية لتقديم حياة والدتها جيردا بعمق إنسانى. بينما تسرد تفاصيل حقيقية عن طفولة والدتها وتجاربهما المشتركة، تضيف عناصر روائية تمنح القصة طابعًا أدبيًا، مما يساعد على إضفاء الحياة على الأحداث والشخصيات. وهذا يمكّن القارئ من الدخول فى عوالم متعددة، تجمع بين الذكريات والتجارب الخاصة وتاريخ مصر فى أزمنة مختلفة.
بناء الهوية والتحولات الثقافية
رواية «الخواجاية» ليست مجرد سرد شخصى بحت؛ إنها أيضًا مرآة للتحولات الاجتماعية والثقافية التى مرت بها مصر فى حقب زمنية مختلفة. يلاحظ كيف أن السيرة الذاتية تتخطى الأبعاد الشخصية لتغدو تعبيرًا عن التفاعل بين الأفراد والمجتمع تقدم فيمونى فى سطور النص صورة غنية عن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت مدينة المحلة الكبرى فى الستينيات والسبعينيات مكانًا يلتقى فيه الغرب بالشرق؛ حيث التقاليد الغربية تجتمع مع الثقافة المصرية المحلية. من خلال تجارب والدتها، تكشف الكاتبة عن حقبة زمنية مليئة بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية، وتطرح تساؤلات حول دور المرأة الغربية فى مجتمع شرقى وكيف يمكن للثقافات أن تتداخل وتؤثر فى تشكيل الهويات. فى مثال آخر، تصف فيمونى تفاصيل حياتها اليومية فى مصر وكيف كانت تواجه التحديات الاجتماعية والثقافية، مثل التمييز بين الجنسين والتقاليد المحلية. هذا الوصف يعكس كيفية تأثير السياقات الاجتماعية والسياسية على الهوية الشخصية والجماعية.
الصراع مع المرض: مرثية الأم
هذا الجزء من السيرة لا يقتصر على كونه توثيقًا لمعاناة عائلية، بل هو أيضًا محاولة لفهم كيف يُعيد المرض تشكيل الروابط الأسرية، ويُعيد النظر فى مفهوم الحياة والموت. الرواية تتعامل مع موضوع المرض بطريقة تجريدية؛ حيث يمثل المرض نقطة تحوّل حاسمة فى مسار السرد. يعكس هذا التحول العمق العاطفى للرواية، حيث يتحول الألم إلى مرثية حقيقية للأم ولعلاقة الأم بابنتها. هذه المرحلة من الكتابة تقدم سردًا يعكس الصمود والحب العميق فى مواجهة النهاية المحتومة، مما يُضيف بُعدًا إنسانيًا عميقًا للرواية. تتسم هذه المرحلة بالشفافية فى التعبير عن المشاعر، مما يعزز من تأثير الرواية ويجعلها أكثر قربًا من القارئ.
التفاعل الثقافى والأنثروبولوجيا الذاتى
تُعد «الخواجاية» مثالاً بارزًا على ما يعرف بالأنثروبولوجيا الذاتية (Autoethnography) وهى نوع من الكتابة التى تستخدم التجربة الشخصية كأداة لفهم الأنماط والتحولات الثقافية والاجتماعية الأوسع. وهكذا تكشف لنا «الخواجاية» من خلال أسلوبها السردى المبتكر، كيف أن الذكريات ليست مجرد مرآة لما مضى، بل هى مفتاح لفهم الحاضر والمستقبل. وتقدم لنا تجربة إنسانية فريدة وغنية تلامس أعماقنا، وتدفعنا للتساؤل عن مكاننا فى هذا العالم الذى تتداخل فيه الهويات والثقافات والتجارب. إنها رحلة إنسانية متكاملة، تنبض بالحياة، وتفتح الأفق على إمكانيات جديدة فرصة لرؤية العالم من زوايا متعددة.