أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب
بمدينة القنيطرة، قدّم المفكر المغربي محمد نور الدين أفاية، أحدث كتبه “الزمن المنفلت.. هل لا يزال المستقبل مرغوبا فيه؟”، في لقاء نظمته شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب، وقدّم فيه المؤلَّف الأكاديمي نبيل فازيو، في لقاء سيَّرَه الإعلامي إدريس عدار.
“الزمن المنفلت”
قال محمد نور الدين أفاية إن هذا الكتاب بمثابة فصل ثالث لكتابين سابقَين خطّهما، هما: “الديمقراطية المنقوصة” و”النهضة المعلقة”. ثم أردف قائلا: “من العناوين يبدو كأن صاحبها يعاني، كما نعاني، من اللااكتمال. نعاني من أزمنة لا تعمل فيها مختلف السلطات (بالمعنى الواسع للسلطة) وتمنع أو تشوش، وتسهم في عدم الإنضاج، وهذا مصيرنا في المغرب، ولن أتحدث عن العالم العربي الذي لا أعرفه كله، ووعدت نفسي ألا أتحدث كثيرا عن العالم العربي؛ لأننا لا نعرف كثيرا من الساحات العربية، مما يدفع إلى أحكام متعسفة أحيانا وتعميمية”.
وحول عنوان “الديمقراطية المنقوصة” الذي صدر قبل العنوان الجديد في السنة الراهنة 2024، ذكر أفاية أن “بعض الدول التي أسست للديمقراطية المعاصرة هي من الديمقراطيات المنقوصة مثل أمريكا، وفرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا.. في تقارير تقيّم وضع الديمقراطية (…) توجد الديمقراطيات المكتملة مثل الدول الإسكندنافية، ثم المنقوصة، فالأنظمة الهجينة المتأرجحة بين التسلطية والانفتاح النسبي سياسيا، فالأنظمة التسلطية. بالتالي “الديمقراطية المنقوصة” ينبغي ألا تحيلنا مباشرة على المغرب”.
وتابع أفاية: “توجد دول أسست لديمقراطيات حقيقية، وتجد نفسها أمام وضعيات تضطرها إلى التنازل عن قيمها المؤسِّسة. فكيف يمكننا النظر إلى بلدان أسست ودافعت عن حقوق الإنسان وتمارس منذ سنة إرهابا منظما على حرية التعبير؟! بل أكثر من هذا إذا عبّرتَ وتجرأت للتعبير عن رأيك في ما يجري من غزة وفلسطين تتعرض للمحاكمة والتشطيب من العمل، في ألمانيا وفرنسا مثلا! أي أن بلدانا أسست للديمقراطية في كثير من الأحيان تتراجع، وتتناسى؛ بل وتعتدي وتخرب هذه القيم. والولايات المتحدة، بعد شعارات طيلة نصف قرن حول حقوق الإنسان، لوت إثرها عنق أنظمة لفرض حقوق الإنسان، لم توقِّع إلى الآن على أوفاق رئيسَة في هذا المجال”.
وفي حديث عن كتابه الجديد “الزمن المنفلت”، ذكر أفاية أن فصله الأول يهمّ “الأبعاد الفلسفية حول الزمان”، والثاني “حول الفكر الفلسفي والفلسفة في عالمنا العربي في نوع من المراجعة البانورامية النقدية للإنتاج الفلسفي العربية”، ثم استرسل قائلا: “أنا من الناس الذين لا يستهينون بالإنتاجات الحقيقية، ولا أنفي ولا أنكر ما أنتجه المثقفون العرب في الخمسين سنة الماضية. المثقف النزيه الذي لا ينطلق من نوع من التورُّم الذاتي، سيلحظ أن في العالم العربي مفكرين وفلاسفة كبارا، ومنهم من درّس خارجه، وأنتجوا أطروحات وأفكارا في منتهى العمق، وهي موضوعات للدراسة والتحليل”.
وانتقد أفاية “الأحكام الجزافية حول الأزمة والتخلف، رغم وجود مظاهر التخلف، وأسماها التخلف السياسي عن الثقافة والفكر، وعدم قدرته على الإنصات لما ينتجه المفكر من أفكار وانفتاحات، دون أن يعني ذلك صوابية كل المفكرين، ولكن لهم مسافة للتفكير في ضوء التاريخ وقد يفيد ذلك صاحب القرار في قراره السياسي”.
وفي تقديم المبحث الثالث من كتاب “الزمن المنفلت” قال الفيلسوف المغربي: “في المغرب نحن سجناء مرجعيتين، خاصة تاريخ الفلسفة الأوروبية وبعض الفلسفة الأمريكية، وتكوينُنا ونصوصُنا ودروسُنا كلها تعتمد على مرجعيات أوروبية أو أمريكية. ونحن سجناء وتابعون لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية، وما أصبح يسمى الفكر العربي الحديث والمعاصر، ولا نفكر في جزء مكوِّن لذاتيتنا هو البعد الإفريقي”.
وتابع شارحا: “منذ سبعين سنة، أنتجت بلدان إفريقية فلاسفة ومفكرين كبارا، صاروا من المراجع المحترمة في الجامعات العالمية، ولا نجد في كتاباتنا العربية اهتماما إلا بشكل عابر من بما ينتجه الأفارقة؛ مثل أشيل مبيمبي، وسليمان بشير ديان الذي أصبح عضوا في أكاديمية المملكة المغربية، فكيف يمكن لمن يدعي الانتماء إلى إفريقيا عدم السماع لمثل هؤلاء؟”.
وتحدث أفاية عن تجربة عاشها مع الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، فـ”هو من الأكثر اهتماما بما ينتجه الأفارقة”، قبل أن يردف قائلا: “في المغرب، لنا أوهام كبرى نستهلكها، بأننا حققنا وحققنا” ثم استدرك: “لا ننسى في علاقتنا بإفريقيا أن الملك الحسن الثاني كان منتبها دائما إلى إفريقيا، وأكثر البلدان العربية التي اهتمت بإفريقيا مصر، وفي صحيفة (الأهرام) كان قسم خاص بإفريقيا وانتبه إلى هذا المفكر الكبير سمير أمين، وعاش بعد مصر وفرنسا في داكار بالسنغال إلى أن توفي”، لكن “منذ أربعين سنة معهد الدراسات الإفريقية بالمغرب لم ينتج كثيرا (…) خارج التظاهرات الفولكلورية والشعارات الكبرى حول إفريقيا”.
وانتقد المتحدث “نوعا من النزوع الفلكلوري في التعامل مع إفريقيا”، مضيفا: “ننسى أن بلدا مثل نيجيريا، التي لا نعرف ما يجري فيها، هي أول سينما في العالم من حيث كم الإنتاج، وهي مختبر حقيقي ونموذج حقيقي لشباب إفريقيا كلهم، وفي السنغال والبينين وكوت ديفوار والكامرون، فيما يتعلق بمجالات الإبداع السينمائي والموسيقي والموضة ستجدون بأن نيجيريا نموذج إبداعي الآن للشباب الإفريقي (…)”.
الثقافة والنهضة والزمن
عبّر نور الدين أفاية عن كون مصطلح “الثقافة” يستعمل في المغرب “بكثير من التعميم”، ثم انتقل إلى الحديث عن “غياب كبير للبنية التحتية للثقافة بالمغرب، وهي: الحرية، والاعتراف، والاستحقاق، ثم العدالة؛ فالمجتمعات التي تعاني من الظلم والفساد والإفساد، في ظل عدم القدرة وعدم الجاهزية على تقدير معنى الاستحقاق، وعدم الاستعداد للاعتراف بكفاءات وقدرات الآخرين والعطاء، وعدم الاستعداد للإقرار للآخرين بالحرية بكل أصنافها، مجتمعات لا يمكن أن نعول أنها ستؤسس لثقافة أو نهضة أيا كان نوعها”.
وواصل: “كل نهضة تنطلق من هذه القواعد الرئيسية، وهي ثقافة ينبغي أن تبدأ من الأسرة والمنظومة التعليمية. والثقافة المصرية (القديمة) أساسية في الفكر الإنساني، وهي التي أثرت في الفلسفة اليونانية”. وجدد، في محطة الحديث عن مفهوم “الزمن” لدى المصريين القدماء، انتقاد كوننا “سجناء التاريخ الأوروبي”، ومضامين تأريخه لذاته، وتنصّله من التأريخ لمؤثّرات فيه مثل “الثقافة المصرية التي أنتجت الكثير من الأسئلة والأجوبة”.
ثم قال: “الحاضر دائما منفلت لا ينفكُّ يمضي، ولا يمكن توقع المستقبل، وأغلب الدراسات الاستشرافية لم تكن تتوقع ما يحصل في التاريخ والمجتمعات”. أما الزمن فـ”موضوع عالجته الحضارات القديمة، والديانات، ولكل المجتمعات والديانات والحضارات تاريخها، والحضارات ترتب مسائل الزمان للإنسان داخل المكان، ونفس الشيء للدول والمؤسسات، والزمان دائما يعيش فيه المرء باستمرار، في حالة تفاوض بين ما يتحرك داخله وما تقتضيه الاعتبارات الموضوعية، سواء في العلاقة بالطبيعة واعتباراتها، والاعتبارات المجتمعية والمؤسسية”.
وزاد: “يوجد تفاوض بين الزمن الذاتي والموضوعي، والزمن التَّذَاوُتي في العلاقة مع الآخر التي هي علاقة تفاوض مستمرة”، مسجلا أن “زمننا هذا لم نعد نمتلكه، انفلت منا، وقوى خفية في شكل خوارزميات تنسينا ذواتنا، وتحشرنا في مواد هي التي تختارها. وتَضيعُ ساعاتٌ ونحن غائِصون في كون لا نتمكن منه إلا نادرا. نعيش نوعا من أنواع النسيان الذاتي (…) نفقد ملكة الإدراك، أي السمع والشم والذوق، وثانيا نفقد ملكة الانتباه، والقدرة على التركيز والاكتساب والتعلم والبناء”، بالتالي “اقتصاد الانتباه في خطر حقيقي”.
ماذا عن سؤال ما بعد الزمن الراهن؟ أجاب أفاية: “اليوم جيل الشباب في المغرب وغير المغرب، يطرح سؤال المستقبل بطريقة تراجيدية (…) منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، اندثر مصطلح التقدم، والاختيارات التقدمية والبديل التقدمي، وفي أدبيات الأحزاب إلى اليوم لا حزب يقدم نفسه تقدميا، حتى ولو كان ذلك جزءا من اسمه (…) بل التجأ الجميع لقيم عالمية لحقوق الإنسان، والكل أصبح يتحدث عنها: اليميني واليساري والوسط. وكأن الناس في السياسة نسوا ما سمي بالتقدم”.
وأضاف: “في المغرب رغم النزاعات والصراعات، وتصاعد مستوى التوتر النفسي والعلائقي بين المرأة والرجل والأبناء… كأننا نتكلم نفس اللغة، ونكرر نفس الأخبار، وكأننا دخلنا شكلا من التسطيح المعمم الذي لا يسمح للإنسان بخلق مسافة”، ورغم “رفع شعار النقد، أحيانا لا نجهر به ولا نرقى إلى مستوى ممارسة النقد بالجدية المطلوبة. لذا عندما تجد مثقف حوله جيش من المريدين، تجد نفسك أمام وضع تتحرى فيه الحفاظ على الذات والسلامة، فلا تجهر برأيك”.
وانتقد صاحب “الوعي بالاعتراف” مثل هذا التردّد، مدافعا عن أن “الحس النقدي إجراء فكري ضروري، علينا التشبث به وقوله والتعبير عنه والرمي به للنقاش العام”، خاصة في ظل واقع “نرى فيه النقاش العمومي بالمغرب يتراجع بشكل كبير جدا، في ظل ضجيج كبير جدا خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي؛ إلا أن النقاش الجدي حتى داخل الجامعات، وفضاءات النقاش النظري والسياسي والإيديولوجي تراجع (…) وهذا صعب لبلد مثل المغرب، يعرف (…) رغبة سياسية في خلق ديناميكية للنهوض”.
المثقف والتعميم
انتقد محمد نور الدين أفاية، في معرض تفاعله مع أسئلة الموعد، “كثيرا من الأحكام التعميمِية غير الصائبة” حول “ما يسمى بالمثقف في المغرب”. وتابع شارحا: “هذا مفهوم حديث في المغرب، لا يتجاوز عمره الستين سنة، وعلينا أن نقيس هذه الفترة الزمنية، بالنسبة لإنتاج وتراكم الأفكار، إذا كانت آليات للبناء والتراكم. فما قبل المثقف العصري، نموذجُ المثقف هو الفقيه، ويطغى على التاريخ المغربي الفقه، وشخصية الفقيه. ولم يبدأ المثقف يفرض ذاته إلا منذ الستينات”.
وواصل: “الستينيات، كانت مختبرا حقيقيا في تاريخ المغرب الثقافي: بدأت الفنون التشكيلية، والشعر الحديث (…) والأفلام الأولى، والمجلات النقدية الحقيقية، والنقد الأدبي، وأجمل الأغاني المغربية (…) وبدأ المثقف المغربي يجهر بأشياء لم يكن في السابق قادرا أن يبوح بها، وقال: أنا أفكر، وأرى، وأتموقع في مجتمع خارج للتو من الاستعمار، لصياغة هوية جديدة”، لكن هذه “ذاتية حوصرت، وحركية حوصرت”.
وزاد المتدخل: “المثقف المغربي العصري عمره محدود، ووجد نفسه أمام وضع اجتماعي وسياسي صعب، ووضع ثقافي أصعب؛ فالكتابة جهد وقرار ومعاناة وتضحية. للقراءة ينبغي التضحية بالعلاقات الاجتماعية، على حساب المرأة والأولاد، ولا ينبغي أن نستهين بفعل الكتابة التي لا نقدّرها الآن حق قدرها، الكاتب والكاتبة، يقومون بفعل جهادي، وليس الأمر معطى، ويبقى المثقف قبل كل شيء مواطنا مثل كل المواطنين عليه واجبات وله حقوق، ونحاسبه على ما يكتب، ومواقفه التي يتخذ”.
وتفاعلا مع سؤال جمهورِ مقهى حُمِّلَ نقاشا ثقافيا في إطار عمل “شبكة المقاهي الثقافية”، قال المفكر المغربي، الذي شغل مسؤوليات استشارية وإعلامية وإدارية، إن “أكثر التقارير نقدية في العشر سنوات الأخيرة صدرت عن المؤسسات الدستورية، ولتنظروا إلى تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمندوبية السامية للتخطيط، وهيئة النزاهة، وخطب الملك”.
ثم قدّر أنه “ربما الصورة التي كنا نملكها عن المثقف العضوي الطلائعي انتهت. المثقف الداعية انتهى واستنفد زمنه، وعلى المثقف اليوم أن يبدع وينتج ويصنع المعنى ويشارك من حيزه النسبي، دون ادعاء، لأننا كنا مدَّعين. لقد ادعى مثقَّفون ادعاءات أكبر من حجمهم، ثم وجودوا أنفسهم أمام أوضاع وكيميائيات أدخلت أعمالهم النسبية، من العروي إلى الخطيبي والجابري، وغيرهم”، واستثنى من ذلك “طه عبد الرحمان، الذي هو المفكر الوحيد الذي لا علاقة له موضوعية مؤسسية بالعمل والشأن العام، وعلاقته الوحيدة بالمؤسسة هو التدريس والكتاب، ولا علاقة له بالواقع. أما الجابري فهو معلم وأستاذ ومفتش وسياسي ويعرف القرار السياسي كيف يطبخ وتوازنات القرار؛ لأن القرار السياسي ليس سهلا، وكان يعرف هذه الأمور من دواخلها، وحين يكتب جملة تطنطن في آذاننا لأنه ينطلق من الكتاب والتجربة والمعاناة ولما يكتبه دلالة، وكذلك العروي احتك بالسياسة وزعماء كبار وكتابه (المغرب والحسن الثاني) يبين هذا، وهو شخص حذر، لا يطلق الأحكام، وكائن قلق، هذه شخصيته”.
وانتقد أفاية صيغة سؤال، قائلا: “المثقف لا توارَى، ولا دُجّن، بل المثقف الذي يؤمن بما يقول ويكتب، يدافع عن آرائه حتى داخل المؤسسات (…) واليوم في علاقة المثقف بالوسائط الجديدة، نجد في خريطة المثقفين تقليديين في الكتابة والمقالات في الجرائد والمجلات والكتب (…) كما أن وسائل الإعلام السمعية البصرية ضيقت شيئا ما من مساحات النقاش الثقافي، وأصبحت وسائط التواصل الاجتماعي هي القنوات، لكن نجد فيها مثقفين تجرؤوا على استعمالها، في الأحداث السياسية والكتب والقضايا الفكرية”.
ومن بين ما عبّر عنه أفاية “معضلة حقيقية اليوم، هي أن المثقفين لا يقرؤون ما يكتبه زملاؤهم، وإذا قرؤوا لا يملكون الاستعداد النفسي ليكتبوا عنها”؛ وهو ما “غاب في الجامعات، وبدأ يغيب بتدرج عن المجالات الأخرى؛ فالمثقفون في المغرب لا يعترفون ببعضهم إلا في النادر”.
ثم تفاعل مع سؤال آخر قائلا: “لم تعد حدودٌ بين الحقول الفكرية، منذ ثمانين سنة. ونجد نصوصا أدبية نثرية أقوى فلسفية مما يكتبه مَن يقدمون أنفسهم فلاسفة”، وقدّم مثالا بـ”عدد كبير من الفلاسفة صاروا أدباء في المغرب”، ومنهم عبد الإله بلقزيز “الذي قدّم تأملات فلسفية أدبيا حول الحياة والموت والزمن والمرأة والزمن والسياسة، بدرجة عالية من الشاعرية”.
ذاتيةٌ جريحة وخلاصٌ بالإبداع
في تقديم كتاب “الزمن المنفلت: هل لا يزال المستقبل مرغوبا فيه؟”، قال الأكاديمي نبيل فازيو إن “الزمن المنفلت ليس زمنا فلسفيا يحلق في السماء، بل زمننا نحن، زمن ذاتيتنا الجريحة؛ هو دعوة إلى خوض تمرين مؤلم مع زمنية الذاتية المغربية، والبحث عنها رغم كل علامات اليأس والإحباط في طريقنا الفلسفي، ودعوة للفلاسفة للاهتمام بواقعهم، وفهم أن الفلسفة ليست ترفا فكريا واستظهارا لأفكار الفلاسفة، وهو أيضا دعوة للانفتاح الأدبي والشعري”.
وأضاف أنه لفهم الكتاب ينبغي فهم قناعة “في سياق الفكر العام للأستاذ محمد نور الدين أفاية. له رؤية خاصة للفلسفة ومهمة التفكير الفلسفي، وقناعة بأنها ليست ترفا فكريا، بل نوع من الانخراط الفكري الحذر في الواقع ورهاناته، ولذا ينضح الكتاب بنفَس واقعي”.
وتابع: “يجب أن نكون حذرين عند قراءة (الزمن المنفلت) فهو عنوان، لا يشرّح معنى الزمن، وقد يسقطنا في هذا الوهم، فصلان على الأقل في مفهوم الزمن، هما مدخل عام فيه اطلاع شاسع على ما قيل معاصرا في الزمن وتصورات الفلاسفة له، وفصل سابق عربيا في الفلسفة الإفريقية.
وزاد: “للأستاذ أفاية في درسه الجامعيّ هوس وانشغال بمفهوم الزمن، لا لصعوبة الإمساك بهذا المفهوم فقط. وفي مخاض تفكيرِه في المفهومِ المنفلتِ، تنبيهٌ إلى وضع بشري معاصر، صار فيه إشكالا حقيقيا للوعي الإنساني، وخلفه أزمةُ وعي نعيشها تتجلى في صعوبة الإمساك بالزمن، وصعوبة الإمساك بهذا الحاضر وهذا العالم، الذي زادته وضعيته الراهنة أزمة على أزمته الأولى”.
أما العنوان الفرعي للكتاب الجديد “هل لا يزال المستقبل مرغوبا فيه؟”، فلولاه لما أُدرك معنى عنوان “الزمن المنفلت”، وهو في تقدير فازيو: “وإن كان يقدم نفسه كتفكير في الوعي الإنساني والعربي، هو قلق حقيقي للوجود المغربي ومصيره، وليس صدفة ختم الكتاب باستدعاء مفكرين مغاربة بالدرجة الأولى”. أما “النفَس الكوني الذي يحرك الكتاب من بدايته إلى نهايته محكوم بوعي أفاية بمسألةِ، بأن كل فكر فلسفي محكوم بنفَس كوني. ولذا، يناقش كبار الفلسفةِ مثل برغسون ودولوز وهايدغر، دون عقدة نقص، لأنه يناقش سؤالا ينتمي إلى الوضع البشري والشرط الإنساني، وأزمة نحن جزء منها بقدر ما هي جزء منا؛ ويكشف قدرة على مضالَعة النصوص الكبرى للفلسفة، وآنذاك يتوجه للفكر العربي ويطرح عليه أسئلة تخصُّه بالدرجة الأولى”.
وجوهر الكتاب، حَسَبَ القارئ، و”الورطة الحقيقية التي يزج نفسه فيها”: “معنى أن نفكر فلسفيا داخل مجال الثقافة العربية”، وهو شق “لا يفكر فيه من زاوية التشرنق على الذات العربية، بل من خلال أزمة الشرط الإنساني المعاصر، الذي ينبغي استحضاره حتى في نقدِهِ الحادِّ جدا للفلاسفة العرب (…) ويخضع الفكر الفلسفي العربي للمساءلة والنقد، وهي مساءلة مفصلية لها ما بعدها من المشتغلين بالفلسفة من المفكرين العرب، ويقول بصريح العبارة: لا نزال نجتر كثيرا من القضايا والأسئلة التي اهتجَس بها المفكرون والفلاسفة العرب منذ زمن طويل”.
ومن بين من يسائلهم أفاية، وفق فازيو، طه عبد الرحمان بـ”مساءلة صارمة وأحكام جذرية. ولأفاية شجاعة موقف واضح، من مشروع له مرجعية فقهية، وسوء تقدير للشرط السياسي والوضع السياسي للمغرب والعالم العربي، وغفلة غير مسبوقة عن الواقع والسياسة في توجيه الأفكار. وهذا نقد غير مجاني سواء اتفقنا أو اختلفنا معه، فوراءه رؤية للعالم، تسطو على الثقافة، والوعي، ورؤيتنا للعالم”. وانتقد أفاية طه “ليبيّن حالة الفصام التي تطغى على وعينا الفلسفي اليوم، وهو سجال يخوضه بجرأة وشجاعة واتخاذ موقف نقدي، لا ضد شخص بذاته؛ بل ضد موجة فكرية باتت تفرض نفسها وتسطو على كثيرا من مساحات تفكيرنا الفلسفي فقط، بل وعينا وثقافتنا بصفة عامة، وتكرّس وعيا شقيا بالزمن والحاضر، ولا تخدم نهائيا أي مشروع فكري يخدم ترميم الوعي المنكسر، للوعي الإيجابي بعالمه”.
كما انتقد أفاية “مشروع فتحي المسكيني، مسجلا أن موقفه من الفكر والفلسفة العربية بصفة عامة موقف محبَط يكرّس اليأس، وفي حمأة التحمس لأحداث الثورات والحراك العربي كان من طليعة الفلاسفة العرب الذين اتخذوا صفة رسولية للإنجاز الذي سينجزه المواطن العربي المتحرر. وبعد مضي سنوات، يرى أفاية أن هذا الحماس كان فيه نوع من التزيّد، وأقولُ نوع من الخفة، حيث وأد مهمة الفيلسوف وراهن على المواطن (…) الذي لا يمتلك ما يكفي من الذاتية (…)”.
لحظة محاسبة أخرى بالكتاب هي لحظة “مراجعة الجيل الجديد من الفلاسفة العرب، وهم مجموعة من الباحثين الشباب الذين أصدروا كتبا جماعية، خاصة من الجزائر والعراق، بحماس، ورغم كل وعود الجيل للتأسيس لفلسفة أصيلة ورفض للتراث الفلسفي (للأجيال السابقة) وسلطة الفكر الفلسفي، لكن النقد الذي تنبني عليه ينتهي إلى نوع من النقض (…) دون أن يستطيع الجيل القطع نهائيا مع أعطاب الأجيال التي سبقته بالماضي”.
محمد نور الدين أفاية يبدو، في نهاية “الزمن المنفلت”، أشبه بنيتشه، “لا يؤمن بمشروع”؛ لكن تبقى “نقطة قوته الكبرى، بعد الجانب النقدي، مفاجأة البحث عن إمكانيات تأسيس فكر فلسفي انطلاقا من إمكانيات الواقع الذي نملكه، ويبدأ الراهن العربي في التواري، ويبدأ اهتمام صامت ومؤلم بالمغرب ووضع المغرب وأسئلته”.
هنا يجد القارئ، وفق صاحب “دولة الفقهاء”، “فرصة ضائعة؛ فأفاية يكتب تحت وطأة وعي مؤلم بأننا أخطأنا ربما الطريق، وأضعنا فرصة ذهبية، ولم نستطع بناء ذاتية مبدعة (…) ورغم كل التقدم الذي كان يعيشه المغرب، خاصة على المستوى الفلسفي، حرمنا أنفسنا من ذاتية مبدعة”.
هذه “الذاتية الموءودة قُتلت لأسباب سياسية، عبّر عنها تضخّم الاستبداد والمنع، والحيلولة دون تفجير القدرة الإبداعية للإنسان المغربي”؛ لكن مع نقل محمد نور الدين أفاية قارئ أحدث مؤلفاته في ختامه “من سماء التجريد الفلسفي واللغة المفهومية والمنطقية إلى كون الإبداع”، تساءل نبيل فازيو: “فهل يعني أن فشل الفكر الفلسفي حتمي، ووحده الإبداع يمكنه أن ينقذنا؟”.