فاسان وإيلوز .. هل الحوار مستحيل حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟
هما مُفكرا اليسار اللَّذان ارتبط اسمهما في الأشهر الأخيرة بأكثر السِّجالات حدة، حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ أحدهما الأنتربولوجي الفرنسي ذو الصَّيت العالمي ديدييه فاسان، الذي عُرِفَ بأعماله المتمحورة حول تجليات عدم المساواة بين الحيوات الإنسانية، دَرَّس في جامعة برينستون وهو عضو بالمؤسسة المرموقة: كوليج دو فرانس، دَافَع في مقال نشرَهُ بالموقع الإلكتروني (AOC) في 2 نونبر 2023 عن دعوى “شبح الإبادة الجماعية”، ومن أجل تمتين حجاجه أخذ مثال إبادة شعب الهيريرو الذي أباده المستعمرون الألمان في أعقاب ثورة 1904 التي اندلعت في البلد الذي صار اليوم يُسمى ناميبيا.
وفي هذا المقال يستدعي ديدييه فاسان “أوجه تشابه مُقلقة” بين الرّد الإسرائيلي على أحداث 7 أكتوبر وبين هذه الصفحة من التاريخ التي تُعتبر أول إبادة جماعية اُرتُكِبَتْ في القرن العشرين، فكانت تمهيدا للمحرقة.
أما الصوت العالمي الآخر فهو الذي تجسّدُه السّوسيولوجية الفرنسية الإسرائلية إيفا إيلوز، مديرة دراسات بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (l’Ecole des Hautes Etudes en Sciences sociales (EHESS))، التي عاشت في إسرائيل مدة طويلة، وقد كتَبَت رداً قاسيا على مقال فاسان، مُدينة التوازي الإشكالي الذي استند إليه، وأن فائدته لا تتجاوز نطاق “الخطابة” دون أن يكون فيه، من جهة النهج العلمي، ما يستحق أن نحتفظ به. وإثر هذا الرّد توالت ردود أخرى عمّقت هوّة الخلاف بين البَاحثًيْن البارزين؛ لهذا فإن أقلَّما يُقَال عن هذا التواصل الاستثنائي الذي خُصِّصَ لمجلة “نوفيل أوبسيرفاتور” هو أن توترا شديدا خيّم عليه.
بعد انصرام سنة على اندلاع حلقة جديدة في حرب لا تبدو لها نهاية في الأفق نشر كل واحد من هذين الباحثين كتابا حول ردود الفعل على الصراع، وقراءة كلا الكتابين في الوقت نفسه يُعدّ تجربة مزعجة، فرغم استنكارهما معا أشكال الصمت المدانة و”الإفلاس الأخلاقي” للنخب الثقافية فإن موضوع استنكارهما والنهج المتَّبع في كل واحد من الكتابين وتحليلاتهما للوقائع كلها تختلف تمام الاختلاف؛ ذلك أن اللُّغز الذي تسعى إيفا إيلوز إلى تسليط الضوء عليه وتوضيحه في كتيّبها الصادر عن دار غاليمار بعنوان: ( le 8-Octobre. Généalogie d’une haine vertueuse) (“8 أكتوبر: جينيالوجيا كراهية فاضلة”)، هو “غياب تعاطف” المعسكر التَّقدمي مع الضحايا الإسرائيليين في السابع من أكتوبر، في حين يرى ديدييه فاسان في محاولته: “اندحار غريب”(Une étrange défaite ») الصادرة عن دار لا ديكوفرت (La Découverte) أن “الموافقة على سحق غزة” تمثِّلُ “تخلياً تاريخيا”.
منذ السَّابع من أكتوبر بدا أن المناقشات الفرنسية حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي شبه مستحيلة، وكل كتاب من كتابيكما يصف بطريقته الخاصة هذا الجمود الذي أصاب المناقشات في العالم الثقافي، كما لو أن نوبَةَ تشنُّج قد ألمّت بالفرد في مواجهة الأحداث، فما هي برأيكما الأسباب التي تفسّرُ هذا التضييق في حقل الكلام؟.
ديدييه فاسان: لقد تمّ فرضُ سردية رسمية تسمح بتبرير القمع الممارس ضد الشعب الفلسطيني، وكل رواية تختلف عنها يتم رفضُها ووصمُها بمعاداة السامية، وأحيانا يتم شجبُها وإدانتها، بل وحتى معاقبتُها، ونتيجة ذلك كان أن صار كل ثمانية متخصصين في الشرق الأوسط من مجموع عشرة يمارسون الرقابة الذاتية، وتمت ممارسة شرطة اللغة والفكر، والمثال الصارخ على ذلك هو الكيفية التي جرى بها تأويل السَّابع من أكتوبر؛ ففي جانب نتحدث عن مذبحة، بمعنى عن فعل مُعادٍ للسامية قاد إلى قتل الناس لأنهم يهود، وفي الجانب الآخر نتحدّث عن المقاومة، أي بتعبير آخر يتم الحديث عن فعل حربٍ قاد إلى قتل الأعداء لأنهم يمارسون القمع والاضطهاد، لكن لا واحدا من هذين التأويلين يبرّر قتل المدنيين وما رافقه من انتهاكات، لأنها جرائم حرب، ويمكن أن تُعَدَّ جرائم ضد الإنسانية.
بيد أن الأمر إذا تعلق بمذبحة لن يكون هناك تاريخ، وسيكون الإسرائيليون محض ضحايا، ولن تكون السياسة التي انتهجتها دَولَتُهم سببا في ذلك، أما إذا ارتبط الأمر بالمقاومة فعندها لا بدّ من فهم الكيفية التي قاد بها احتلال الأراضي الفلسطينية والاستيطان وتدمير الحقول وتشويه المتظاهرين، والاعتقال دون توجيه تُهم، كيف قاد كل ذلك إلى غضبٍ وسخط تحوّلا، في ظل غياب فضاء للتفاوض، إلى هجوم. والتأويل الأول هو الذي يتمتع بالمشروعية في فرنسا، بينما التأويل الثاني يمكن أن يقود إلى الإدانة.
إيفا إيلوز: هناك تدمير لغزة والتّعاطف مع كل الضَّحايا المدنيين فارض نفسه، لكن هجوم حماس وردَّ إسرائيل عليه يندرجان داخل تاريخ حرب طويلة، فحماس انتهكت العديد من اتفاقات وقف إطلاق النار وأطلقت عشرات الآلاف الصواريخ في السنوات الأخيرة على المدنيين، لذلك لا أستطيع بجرّة قلم حذف عبارة “مذبحة”، لأن ميثاق حماس ينطوي على الإبادة الجماعية ومعاداة السامية.
ولفهم الأحداث يوجد سِجلاّن غير متوافقين: سجلُّ إنساني وسجلُّ آخر هو سجلُّ الحرب، مع وجود انفصال بينهما؛ فالسّجلّ الأول يرى منطقَاً للسَّحق وقتلى وجرحى مدنيين، وأجيالا ستحمل بشكل دائم الآثار العميقة لهذا الدّمار، لكنه يحُول دون إمكانية فهم السِّجل الثاني؛ أي سجلُّ حربٍ عمّرت قرنا من الزمن، هذا هو السّياق التاريخي الحقّ. والحال أن كِلا المعسكرين، داخل منطق الحرب، هما معا ضحية وجلاّد.
أما الوصْمُ فقد أدى وظيفته في الاتجاهين معاً، حيثُ جرى تداول قوائم بشخصيات يهودية صهيونية على الأنترنيت، وفي المركبات الجامعية الأمريكية والفرنسية، بل صار لفظ “صهيوني” سُبّة، ولفظاً يرادف لفظ “نازي”. أنتم لا تنظرون أبدا إلى وجهتي نظر هذه القصة المأوساوية، كان بإمكانكم، مثلا، أن تستلهموا أحد الأعمال الكلاسيكية للأنثروبولوجيا، كتاب “الزهرة الذهبية والسيف” (1946) le Chrysanthème et le Sabre لروث بنيديكت (Ruth Benedict)، التي حاولت فهم العقلية اليابانية في وقت ردّ الأمريكيون بكراهية مُستَعرَة على هجوم بيرل هاربر(Pearl Harbour). إن عملكم يعاني تقصيراً في واجب الفهم الأنثروبولوجي، فأنتم لا تحفلون بمشكلة معرفة من يكون الإسرائيلي ومن هم اليهود الذين يدعمون إسرائيل، مع أنهم لا يقومون بذلك بكيفية غير مشروطة أبدا، بل يُساندونها في حقها في الدفاع عن نفسها، وبعد ذلك يمكننا مناقشة إلى أي حد يمكن أن يمتد هذا الحق.
ديدييه فاسان: ليس موضوعي هم الإسرائيليون أو الفلسطينيون، بل رد فعل العالم على الدّمار الذي لحق أرضا وقسما من سُكّانها وكل بنيَتها التّحتية تقريبا ومستشفياتها ومدارسها وثقافتها.
ومع ذلك فأنا أتعامل بجدية مع الصَّدمة التي مثّلها السابع من أكتوبر للإسرائيليين وليهود الشّتات، التي تفاقمت حدّتُها بسبب تواصل الحكومة الإسرائيلية بخصوص الوقائع، التي عرّتِ التحقيقاتُ التي أُجريت في ما بعد الصلاحيةَ عن أكثرها بشاعة وفظاعة، كما أحلّل أيضا الإحساس بالتَّهديد الوجودي الذي يشعرُ به الكثيرون، سواء في إسرائيل أو خارجها، وتكذيب القادة العسكريين حقيقة هذا التهديد، ودحضها بدعم ومساندة الدول الغربية بل وحتى الدول العربية، وتذرع المسؤولين السياسيين بهذا التهديد في السابق، لخلق إجماع وطني ودولي في الوقت نفسه، كل ذلك لا يحول دون اعترافنا بهذا الإحساس.
لكن ما ألاحظه في الوقت ذاته هو أن الحكومة الإسرائيلية في وقت تستخدم هذه الحجة لإذكاء الرّغبة في الانتقام يلقي التهديد الوجودي بثقله على الفلسطينيين في الواقع؛ فقد أكّدت المنصة الرقيمة لحزب الليكود، الحزب الذي يتولى السلطة في إسرائيل، سنة 1977، أي إحدى عشرة سنة قبل ميثاق حركة حماس، أنه “من البحر إلى النهر لن توجد سوى السيادة الإسرائيلية”، وهو ما أعاد التأكيد عليه الوزير الأول الإسرائيلي بضعة أشهر قبل السّابع من أكتوبر.
إيفا إيلوز: إني لَأجِدُ من باب السُّخرية أن نتحدث بمثل هذا اليقين عن الخطر الذي يتهدّد إسرائيل ونحن نعيش في بيوتنا داخل بلد ينعم بالسّلام. من الواجب علينا حين نتعاطى لممارسة البحث في العلوم الاجتماعية أن نفحص جميع الآراء لا أن نحتفظ بالمعلومات التي تناسب تلك الخاصة بنا، إن كتابكم كتاب إيديولوجي لأنه عبارة عن إدانة موجَّهَة ضد إسرائيل.
تقولون بصورة ضمنيّة إن التهديد الذي يتعرّض له الإسرائيليون تهديد وهمي؛ لأن إسرائيل تخوض حرباً على جبهات عديدة، وهي بأجمعها مُهدِّدةٌ لوجودها، سواء كانت حركة حماس أو حزب الله أو إيران أو الحوثيون في اليمن أو سوريا، فهذا التهديد أبعد من أن يكون تهديدا متخّيلا. بالطبع صارت غزة مدَمّرة، وهو ما يُشعِرُني بالأسف العميق، بسبب حسابات يتحمّل مسؤوليَّتها قادةُ حماس لأن لديهم قضية أكبر من شعبهم.
ولا تفوتني الإشارة أيضا إلى أن حماس تنتمي إلى الإخوان المسلمين، وهي جماعة ظهرت في العشرينيات من القرن الماضي في مصر، وكانت لقادتها الرئيسيين صلاتٌ بالإيديولوجيا النازية؛ علاوة على أن إيران وحزب الله بوصفهما حليفي حماس لم يتوقفا خلال الثلاثين سنة الأخيرة عن تنظيم هجمات ضد إسرائيل وضد اليهود.
يُعَرِّفُ الكاتب جان إيميري (Jean Améry) “الوضع اليهودي” (condition juive) بأنه وضع “موت في رخصة”، هكذا يعيش اليهود تجربة العالم، وما الصهيونية إلا محاولة هُروبٍ من ذلك، والمفارقة أنها وجدت نفسها اليوم تتقاسم هذا “الوضع اليهودي” وتشترك فيه، لأن هذه الحرب غير متكافئة بنظر الإسرائيليين، وهذا اللاّتقايس يخص دولة صغيرة جدا بحجم ولاية نيوجرسي داخل منطقة شاسعة تعادي إلى حد كبير الوجود اليهودي.
ديدييه فاسان: لم أحرّر صكّ اتهام ضد إسرائيل، بل واجهتُ بالوقائع خطاباً سائدا يمارس هيمنَتَهُ، بينما ما تقومين به أنت هو جينيالوجيا للأفكار، فعندما أتحدث عن الحرب بين إسرائيل وحماس أتذكّر خطاب الرئيس الإسرائيلي الذي حمّل الشّعب الفلسطيني بأكمله المسؤولية لأجل تبرير سَحقِهِ، وخطاب الوزير الأول الذي دعا إلى إبادة الرجال والنساء والرُّضع والأطفال، مستخدما الإحالة التوراتية إلى عقاب عماليق. وحين يوصف الجيش الإسرائيلي بأنه الجيش الأكثر أخلاقية في العالم أتذكر القصف المكثف للسُّكان، وإطلاق النار على أُناس عزّل كانوا متجهين إلى نقط توزيع المساعدات الغذائية، واستخدام المراهقين الفلسطينيين دروعا بشرية، وتعذيب الأسرى الفلسطينيين حتّى الموت في المعتقلات الإسرائيلية، فنادرا ما تأذَّت اللغة وصارت عبثية كما حدث في السنة الماضية، بُغية إتاحة الفرصة لإظهار الحرب في غزة على غير ما هي عليه في الواقع، وكما سبق لبيير فيدال ناكي (Pierre VidalNaquet) أن تحدث عن “قتلة الذاكرة” (les « assassins de la mémoire »)، يوجد أيضا قتلة اللّغة.
أن تكون إسرائيل دولة صغيرة لا يرادف كونها دولة ضعيفة، لأن الولايات المتحدة تُغالي في تسْلحيها، كما أنها تمتلك السلاح النووي بفضل فرنسا، وهي دولة في توسُّع عن طريق استلائها دون توقف على الأراضي الفلسطينية واستيطانها لها منذ خمسين سنة.
إيفا إيلوز: أنا الأولى التي تريد قيام دولة للفلسطينيين، وأريدها لهم كما أريدها للإسرائيليين، وأنا الأولى التي انتقدت نتنياهو وحربَه التي تفتقر إلى أهداف محدّدة وهي تمتد وتتوسع بشكل خطير، لكن رغم ذلك صار معظم الإسرائيليين يعتقدون أن الواجب هو التصرّفُ تجاه هذا الغزو الدموي، بعدما كان غالبيتهم يريدون السلام في السادس من أكتوبر.
وعلينا ألاّ ننسى عمليات الرفض العديدة التي عبّر عنها الفلسطينيون لكل تقاسم للأرض، فضلا عن أنّهُ من الخطأ تقديم إسرائيل كما لو كان يحرّكها استيلاء واحتلال لا ينتهي؛ فمنذ أربعين عاما أخلت ما يقرب من 61 ألف كيلومتر واحتفظت بحوالي 7000…. بما في ذلك بالطبع الضفة الغربية التي أصبحت اليوم احتلالا غير شرعي، أمّا صورة القوة المفرطة التي تنسبها لإسرائيل فما هي إلا صورة بالية ومبتذلة.
ديدييه فاسان: ما يجب التّركيز عليه ليس هو إعادة إسرائيل جزءا من الأراضي التي احتلتها بقوة السّلاح إلى المصريين والسوريين، بل أنها جرّدت الفلسطينيين تدريجيا من مجالهم الحيوي، ومن سيادتهم ومن حريتهم، وهو ما قاد ماكسيم رودينسون إلى الحديث عن “الواقعة الاستعمارية” «fait colonial». أما في ما يرتبط بالسّلام فإن عدم احترام الإسرائيليين اتفاقيات أوسلو، التي تم التّنديد بها منذ توقيعها، يُظهِرُ أن الخيار الوحيد الذي يحظى باعتبار الدولة العبرية يَفترضُ رفض القانون الدولي والتخلي عن حقوق الفلسطينيين.
إيفا إيلوز: أعتقد أن حكومة نتنياهو ورفاقه من الدينيين تعمل على تصفية الديمقراطية، لكنك تستخدم الاحتلال لإنكار وجود حرب من الجانبين، وأن قسما من القادة الفلسطينيين لهم أهداف إبادية، فلماذا القلق من كلمة “استعماري”؟، لأننا نعلم جيدا أن تعريف إسرائيل بالـ”دولة استعمارية” يهدف إلى إنكار أسس وجودها غير الاستعمارية ونفيها عنها، فاليهود الذين وصلوا إلى إسرائيل ما بين سنة 1933 وسنة 1939 فروا من ألمانيا النازية، ثم تلاهم سنة 1948 140000 من الأحياء الناجين من الهولوكوست، وفي الأخير فرّ 650000 يهودي من المذابح في الدول الإسلامية بين 1940 و1950، فهؤلاء لاجئون ليس لهم بديل غير إسرائيل، ولا يمكننا إسقاط سنة 1967 على سنة 1948 وإلصاقها بها، فهذه القراءة “الاستعمارية” تتجاهل التاريخ وتنزع المشروعية عن الوطن القومي اليهودي.
في مواجهة الكارثة في غزة وما أدلى به القادة الإسرائيليون من تصريحات مُهينة أقدمت جنوب إفريقيا على اتهام إسرائيل بارتكاب “إبادة جماعية”، ورفعت الأمر إلى محكمة العدل الدولية، لتوجِّه هذه المحكمة عند نهاية يناير إنذاراً للدولة العبرية، ما رأيكما في هذا الاتهام؟.
إيفا إيلوز: إن التحريض على الإبادة الجماعية تصريح مشين وفاضح صادر عن بعض القادة الإسرائليين، وهو في حد ذاته يُمَثّلُ جريمة، غير أن هذه الجريمة لا تشكِّل إبادة جماعية، ولم يتم إثبات نيَّة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، لأن التدابير- التي قد لا تكون كافية- تَمّ اتخاذُها لتحذير السكان وإخلائهم من المناطق التي ستتعرض للقصف. لقد وقعت جرائم حرب في غزة، لكن لسنا بحاجة إلى كلمة “إبادة جماعية” لتوصيفها مع كل ما تجرّه معها من مخيال لإدانة ما يحدث، لأن هذه الحرب لا سابق لها، حيث يختبئ المقاتلون في مساحة 700 كيلومتر من الأنفاق ويستخدمون الساكنة كدروع. والقانون لا يتوفر على ما يُمكِّنه من فهم هذه الحالة، وأحيانا يكون من اللازم ابتكار مقولات جديدة، وذاك هو “الحكم” بالمعنى الذي استخدمته الفيلسوفة أرندت، أي أن نفهم جدّة الحدث.
ديدييه فاسان: لا يتعلق الأمر بالتساؤل عمّا إذا كُنا في “حاجة” إلى كلمة “إبادة جماعية”، بل بالتساؤل عمّا إذا كانت تنطبق قانونيا، فقد أعلنت محكمة العدل الدولية أنها “دعوة منطقية، وفق اعتبارات وأدلة واضحة”، بل حتّى القاضي المُمثل للولايات المتحدة الأمريكية اعترف بذلك. وتأكيد هذه الجريمة من عدمه يستغرق وقتا طويلا، كما أنه سيكون عُرضة لضغوط سياسية كبيرة. يعترض العديد من الإسرائيليين واليهود على استخدام هذا المصطلح، لخشيتهم من أن يؤدي إلى التقليل من ذكرى المحرقة، لكن الحالة ليست كذلك، لأن كل إبادة جماعية إلا ولها تاريخها الخاص، وتدمير اليهود في أوربا ليس هو تدمير الفلسطينيين في غزة.
أن تكون هناك معاداة للسامية سواء في فرنسا أو خارجها، وأن تعرف تجدُّداً وازدياداً أثناء موجات العنف في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هي واقعة تستوجب الإدانة مهما كانت الجهة التي تصدر عنها، شأنها شأن النزعة العنصرية المضادة للعرب والمسلمين الآخذة في التصاعد، لكن ما تُطلقين عليه اسم “معاداة السامية الجديدة الخاصة باليسار” هي تُحيل في الغالب عن انتقاد السياسة الإسرائيلية وانتهاكها للقانون الدولي، وعنف حربها على غزة. والتحليلات التي يتم وصمها بهذا الوصم تصدر عن اليهود كما عن غيرهم.
يجب تطبيق إعلان القدس لسنة 2020 تطبيقا صارما، وهو إعلان وقّعه 350 متخصصا من العالم برمته في الدراسات اليهودية والإبادة الجماعية، يعترفُ بانتقاد دولة إسرائيل، ومقارنتها مع تواريخ أخرى، بما فيها التواريخ الاستعمارية، والتشكيك في الصهيونية بوصفها شكلا من أشكال القومية، بل حتى إجراءات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات لا يعتبرها معادية للسامية.
إيفا إيلوز: من الخطأ القول إن الانتقادات الموجهة لإسرائيل يتم اعتبارها معادية للسامية، إذ يمكننا انتقاد حكومة إسرائيل بل من واجبنا القيام بذلك، أما ما يُعتَبَرُ معاداة للسامية وينهي المناقشة هو ضَرْبٌ بعينه من استخدام الكلمات، والرفض المتعمَّد وعن سابق روية لرؤية هشاشة إسرائيل وضعفها، والمماثلات التي تساوي بين أفعال حماس وانتفاضة معسكر اعتقال وارسو، وتُعادل بين الحرب والمحرقة، كما فعل الرئيس البرازيلي لولا؛ أو حين يقارنون حماس بالمؤتمر الوطني الإفريقي [في جنوب إفريقيا] حتى يقولوا إن إرهابيي اليوم يمكنهم أن يكونوا صناع سلام غدا، لذلك أقول نعم إن الصهاينة يشعرون اليوم أنهم عرضة للهجوم باعتبارهم يهودا.
ديدييه فاسان: أنا لا أقيم أي مماثلةً مع المؤتمر الوطني الإفريقي، ولأجل التفكير في استخدام صفة “إرهابي” أستشهد بثلاث منظمات كانت تُعتبر كذلك، هي المؤتمر الوطني الإفريقي ومنظمة الإرغون (l’Irgoun)، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي منظمات صار زعماؤُها، وهم على التوالي: نيلسون مانديلا ومناحيم بيغن وياسر عرفات، في وقت لاحق قادة دول، بل وحصلوا حتى على جائزة نوبل للسلام، غير أنني أضيف لذلك أن حركات أخرى، مثل “الطريق المضيء”(le Sentier lumineux) ومنظمة القاعدة، لم تعرف هذا التطور، لذلك ما من شيء يسمح بالتنبؤ بما ستكون عليه في المستقبل مكانة المنظمات التي تعتبرها اليوم بعض الحكومات منظمات إرهابية.
إيفا إيلوز: إن الخلاصة التي لا مناص من أن ينتهي إليها قارئكم هي أن حركة حماس يمكن أن تصير غدا معادلة للمؤتمر الوطني الإفريقي، وهذه المماثلة تمثل صدى لأخرى، هي مماثلة “نظام الفصل العنصري [أبرتهايد]، التي لا تأخذ في حسبانها أبدا كون أقلية بيضاء في جنوب إفريقيا هي التي هيمنت وسادت على أغلبية واسعة من السود، وغياب أي صلة تاريخية بين المستوطنين البيض والأراضي التي استولوا عليها؛ أمّا في إسرائيل فإن ما يحدث هو حرب بين شعبين كلاهما يعتبر نفسه الساكن الأصلي.
ديدييه فاسان: لا أستخدم في كتابي مصطلح “الفصل العنصري [الأبرتهايد]”، أكثر من تعبير “الدولة الاستعمارية”، حتى وإن بدا لي من المشروع جدا مناقشتهما معا، كما يشير إلى ذلك إعلان القدس الذي وقّعت عليه.
إيفا إيلوز: بالضبط أنتم لا تقولون ذلك، لكن مجموع حجاجك يوحي به ويدفع باتجاه التفكير فيه؛ أما أهدافنا فليس بينها كبير اختلاف، ما دام الأمر بالنسبة لي يتعلق أيضا بفهم ردود الفعل التي أعقبت السابع من أكتوبر؛ فقسم كبير من اليسار التقدمي استحسن نبأ المذبحة، بل استقبله بالترحيب والابتهاج، كما أن تنظيمات طلابية وسياسية ودولية وطبقة من المثقفين والفنانين كلهم لم يتفاعلوا مع ما ارتكب من عنف جنسي، بل أنكروه؛ وهو ما خلّف صدمةً في صفوف المُناضلات النسائيات الإسرائيليات واليهوديات، ومع ذلك ليس هناك شيء يمكنه منعهن من الرَّد على هذه الوحشية ومن الدفاع عن حق الفلسطينيين في أن تكون لهم دولة، وعن قضية السلام. لكن ابتداء من الثامن من أكتوبر كل شيء كان يظهر كما لو أن الضحايا الإسرائيليين غير مقبولين، وهذا اللُّغز هو ما حاولت تفكيكه وحلّه، عبر وضع الأسباب الإيديولوجية لهذه النظرة في سياق التاريخ.
ديدية فاسان: إن انتقاد الصهيونية ليس طعنا في وجود دولة إسرائيل، مثلما يؤكّدُ أولئك الذين يريدون إسكات هذا الانتقاد، بل هو نقد للشكل الاستعماري الذي اتخذته، وإذا كان قسم من اليسار يولي اهتماما أكبر بالقضية الفلسطينية مقارنة بما يحدث في بلدان أخرى فلأن فلسطين هي المكان الوحيد في العالم الذي تدعم فيه معظم الحكومات الغربية دولة تنتهك القانون الدولي وترتكب جرائم لا يُسقطُها التّقادم.
إيفا إيلوز: أعترض على هذه الفكرة التي تقول إنّ العالم الغربي يدعم إسرائيل بشكل أعمى، فالمناقشات كانت فورية ومباشرة في الرأي العام، لذلك أعتقد أننا (أنا وأنت) نعيش في واقعين يوازي أحدُهُما الآخر.