شراكة استثنائية وطيدة
كل شيء كان استثنائيا في الرباط يوم 28 أكتوبر 2024، وهو اليوم الأول من زيارة دولة يقوم بها الرئيس الفرنسي إلى بلادنا بدعوة من جلالة الملك، كان استقبالا رسميا وشعبيا يليق بصديق المغرب الكبير فخامة الرئيس إمانويل ماكرون، ويليق بعمق العلاقات التاريخية بين البلدين.
فرنسا تعرف المغرب جيدا ونحن نعرفها كذلك، لذلك لم يكن من الغريب أن تعرف العلاقات بين البلدين هذه الدفعة القوية وهذه الشراكة الاستثنائية الوطيدة، كما عبر عنها البلاغ الموقع بين قائدي البلدين.
هذا المنعطف الكبير، لا يمكن قراءته ولا فهمه خارج ثنائية الوضوح والطموح التي تشكل أحد دعامات الدبلوماسية المغربية كما أرساها جلالة الملك، كما لا يمكن فهمه أيضا بمعزل عن استحضار مضامين الخطاب الملكي التاريخي ليوم 20 غشت 2022، الذي أعلن فيه جلالته أن قضية الصحراء المغربية هي النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات.
الآن، وقد حسمت الجمهورية الفرنسية أمرها وانتصرت في نزاع إقليمي تعرف جيدا أطرافه الحقيقيين لا المصطنعين، فقد خطت خطوة عملاقة نحو قلوب المغاربة الذين يعتبرون قضية الصحراء قضية مقدسة مرتبطة بوجود الأمة المغربية برمتها، وليس مجرد نزاع حدودي مع بلد جار ينازعنا السيادة على جزء من ترابنا.
من المؤكد كذلك أن هذا الموقف الفرنسي الجديد لا يمكن فصله البتة عن الدينامية الإيجابية التي يعرفها الملف لصالح الموقف المغربي بفضل حكمة وحنكة الدبلوماسية الملكية التي لا تكل ولا تمل في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة وحدودها الحقة.
فأي خلاصات؟ يمكن الوقوف عندها من خلال زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي لبلادنا، بكل ما تضمنته سواء من الاستقبال التاريخي الذي حظي به من طرف جلالة الملك، إلى مضامين البلاغ المشترك الموقع بين جلالة الملك والرئيس الفرنسي، إلى مضامين وطبيعة اتفاقيات التعاون الموقعة، هذا ناهيك عن مضامين خطاب الرئيس الفرنسي أمام البرلمان، طبقا لأحكام الفصل 68 من الدستور المغربي.
يندرج إذن الإعلان المتعلق بالشراكة الاستثنائية الوطيدة بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية في إطار هذا التحول الكبير، فهذا الإعلان التاريخي وضع مبادئ العلاقات الثنائية بين البلدين، وفي مقدمتها “العلاقة بين دولة ودولة والمساواة في السيادة”، كما أنه حدد ثلاثة أهداف كبرى لهذه الشراكة الأساسية الوطيدة، وذكر قطاعات استراتيجية بعينها ستحظى بالتعاون ما بين البلدين، هذا علاوة على أنه أفرد فقرة خاصة لموضوع الهجرة، استوعبت مواقف البلدين من هذه الإشكالية، وبالإضافة إلى ذلك أفرد هذا الإعلان حيزا بارزا للقارة الإفريقية، حيث أشاد الرئيس الفرنسي بالعمل الهام الذي يقوم به جلالة الملك من أجل استقرار إفريقيا وتنميتها، كما أن هذا الإعلان لم يغفل التأكيد على أن مجال تطبيق “الشراكة الاستراتيجية الوطيدة” يشمل الأقاليم الجنوبية للمملكة، وذلك على ضوء الإعتراف الفرنسي بالسيادة المغربية على الصحراء.
لقد شكل التوقيع على 22 اتفاقية بين البلدين في حفل بهيج ترأسه قائدا البلدين، بداية قوية للشروع في تنزيل مضامين إعلان الشراكة الاستثنائية الوطيدة، وذلك بالنظر إلى القطاعات والمجالات التي همتها تلك الاتفاقيات، وهي مجالات تتعلق بقضايا ومواضيع تعد في مقدمة أولويات العمل الوطني، ولا سيما ما يهم البنيات التحتية؛ الصناعة؛ الهدروجين الأخضر؛ دعم الاستثمارات؛ الوقاية المدنية ومكافحة الحرائق؛ الماء، وقطاعات التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، والصناعة التقليدية، هذا علاوة على مجالات البيئة والطاقة الريحية والموانئ، نحن أمام إرادة قوية وصادقة للانتقال بالعلاقات الفرنسية المغربية إلى مرحلة جديدة.
بالإضافة إلى الاستقبال التاريخي ونص الإعلان المشترك، وحفل التوقيع على 22 اتفاقية تعاون، شكل خطاب الرئيس الفرنسي أمام البرلمان المغربي طبقا لأحكام الفصل 68 من الدستور لحظة سياسية قوية.
إنه خطاب يمتح من التاريخ العريق للعلاقات بين البدين، ويؤكد لمن مازال يحتاج دليلا على المكانة والرفعة التي أصبحت تحتلها بلادنا بين الأمم العظمى، طبعا بالنسبة للمغاربة ومن حقهم ذلك، كانوا ينتظرون تأكيد الموقف الفرنسي من القضية الوطنية، وهو الأمر الذي تم وسط تصفيقات سمع صداها من بعيد.
من بعيد جدا، لقد كان خطاب الرئيس الفرنسي في البرلمان استثنائيا في كل شيء، في الحفاوة التي حظي بها، وفي حرصه على استدعاء التاريخ الطويل للعلاقات الفرنسية المغربية بكل التموجات والتحولات الكبرى التي مرت منها، مع إشارات دالة لبعض الشخصيات التاريخية السياسية والفكرية التي بصمت العلاقة ما بين البلدين.
لقد كان واضحا أن الرئيس الفرنسي يدرك جيدا عراقة الملكية المغربية وأصالتها والتحامها بالشعب، وقيادتها على مر التاريخ للأمة من أجل التغيير والإصلاح وتحديث بنيات المجتمع.
طبعا هناك القلة التي لم تر في هذا الخطاب إلا موقف فرنسا من الأحداث المؤلمة في فلسطين، ورغم أنه لا يلزمنا كبلد له مواقف مناصرة لنضالات الشعب الفلسطيني لحل الدولتين، إلا أنه من المهم التأكيد على أن بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم الاثنين 28 أكتوبر 2024 بخصوص فحوى المباحثات بين جلالة الملك والرئيس الفرنسي جاء فيه: “دعا قائدا البلدين إلى وقف فوري للهجمات في غزة ولبنان، مع تأكيدهما على أولوية حماية السكان المدنيين وأهمية ضمان وتيسير وصول المساعدات الكافية، مع وضع حد لتأجيج الوضع على المستوى الإقليمي الكفيلة”.
الذين تعاملوا مع مضمون خطاب الرئيس الفرنسي مما يحصل في الشرق الأوسط بمنطق “ويل للمصلين” إنما يريدون عن سبق إصرار وترصد أن يفسدوا علينا لحظة استثنائية انتظرناها لسنوات، وهي دعم فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي لمغربية الصحراء، ويبقى المهم هو أن بلادنا بقيادة جلالة الملك لن تتوقف هنا، بل إن مسار الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء ودعم مقترح الحكم الذاتي يمضي قدما حتى الطي النهائي لهذا النزاع المفتعل.