بوعيطة يقتفي مسار الروائي لغتيري
حين نكون في حضرة الروائي المغربي مصطفى لغتيري نحتار بأي عين ننظر إليه، هل بعين ذلك الروائي الذي راكم تجربة روائية فريدة في المشهد الثقافي المغربي والعربي؟ أم بعين ذلك الذي عشق محبوبته الأولى والأخيرة (القصة القصيرة جدا) حد النخاع، فأبدع فيها نصوصا قصصية لا تخطئها العين؟ أم بعين ذلك الشاعر الذي نثر قصائده في حنايا منابر ثقافية متعددة؟ أم بعين من ولج باب المسرح فكتب في هذا الجنس الأدبي ما تيسر له؟ لكن رغم هذه الحيرة فإننا لا ننظر إليه إلا بعين ملؤها المحبة والصداقة الصافية، لأن الإبداع مهما تعددت أجناسه وأنواعه لا يخرج عن بناء أواصر المحبة والعلاقات الإنسانية في أرقى تجلياتها، وكل من يرى غير ذلك فإنه على وجهه هائم.
لهذا فإن تجربة الروائي مصطفى لغتيري الغنية لا يمكن اخترالها في كلمات محدودة، لأنها ممتدة في الزمان عبر مجموعة من التراكمات الرواية التي تتطلب المزيد من البحث والتنقيب، للكشف عن مختلف الأساليب السردية المميزة لهذه التجربة، وتبيان التطورات التي عرفتها عبر صيرورة نصوصها السردية على مستوى جميع مكونات العملية السردية (المرجعية (المستوى الحكائي)، الشخصيات، الزمن، الرؤية السردية…). حيث برزت هذه الصيرورة بدءا من روايته ”رجال وكلاب” الصادرة سنة 2007، مرورا بمجموعة من الروايات (عائشة القديسة، ليلة إفريقية، رقصة العنكبوت، ابن السماء، على ضفاف البحيرة، أسلاك شائكة، تراثيل أمازيغية، الأطلسي التائه، أحلام الميسسبي على ضفاف سبو…الخ)، ووصولا إلى رواية ”جنة الفلاسفة” 2024؛ ما يؤكد غنى هذا المسار الروائي الطويل.
لهذا تعددت المرجعيات الثقافية (بالمعنى الأنطروبولوجي لمفهوم الثقافة) التي استثمرها الروائي مصطفى لغتيري، نذكر من بينها: التاريخ، المرأة، الهوية والآخر…الخ، ما أفضى إلى تعدد العوالم التي ولجتها تجربته الروائية، وأسهم في الوقت نفسه في إثراء البنية الدلالية لنصوصه الروائية وتعدد مستوياتها، سواء على مستوى الكتابة أو التلقي.
ونذكر في هذا السياق ضمن هذه المرجعيات ثلاثة مسارات أسياسية من بين ما ميزت هذه التجربة الروائية:
1. مسار التاريخ: شكل التاريخ مادة حكائية (مرجعية) لمجموعة من الأعمال الروائية عند مصطفى لغتيري، كما هو الشأن عند مجموعة من الروائيين العرب (سالم حميش، إبراهيم نصر الله، رضور عاشور، عبد الرحمن منيف…الخ)، حيث ساهم هذا المعطى التارخي في إغناء المادة الحكائية، وعمل على تنويع أساليب السرده الروائي؛ تجلى ذلك بشكل بارز في رواية ”أحلام الميسسبي على ضفاف سبو”، ورواية ”زوجة الملوك الثلاثة”.
2. مسار الثقافة الشعبية (الحكاية الشعبية): تعد هذه المرجعية كذلك من بين أهم المرجعيات التي استثمرها أغلب الروائيين العرب، لما تحمله بين طياتها من حمولات دلالية، سواء على مستوى الوعي الفردي أو الجماعي؛ تجلى ذلك في رواية ”عائشة القديسة” لمصطفى لغتيري، ذات الحمولة التاريخية والاجتماعية والثقافية التي كانت متداولة في مرحلة من مراحل التاريخ المغربي؛ لهذا تشكل دراسة الأنساق الثقافية المفتاح الممكن لتناول هذا النص السردي.
3. مسار الموروث الروحي (التصوف): شكل الموروث الروحي (التصوف) منبعا خصبا لمجموعة من الروائيين الذين وظفوا سير مجموعة من أقطاب التصوف العربي والمغربي؛ نذكر على سبيل المثال لا الحصر الروائي المغربي أحمد التوفيق في بعض أعماله، حيث غالبا ما تأتي هذه النصوص الروائية المستمدة من الحقل الصوفي باعتبارها سيرة غيرية لعلم من أعلام التصوف، ورحلة بحثه المضنية عن حقيقة الوجود.
تجلى ذلك عند مصطفى لغتير في روايته ”الأطلسي التائه” الصادرة سنة 2015؛ بحيث يمكن اعتبارها سيرة غيرية للمتصوف المغربي أبي يعزى الهسكوري (المعرف بمولاي بوعزة)، حيث مزج الروائي بين المعطى السير ذاتي (الغيري) والمعطى التخييلي الذي يستند إلى السرد الروائي في بناء عوالمه الحكائية.
هذه مجرد كلمة في حق الروائي المغربي مصطفى لغتيري، ونحن نعلم علم اليقين أننا لم نوفه حقه بعد بالمقارنة مع ما راكمه من إبداع ومازال، لعل ذلك سيأتي مستقبلا، إذا كان في العمر بقية.
*ناقد مغربي