"المعسول" .. المختار السوسي يناصر "ثورة النبوغ المغربي المتعدد"

"المعسول" .. المختار السوسي يناصر "ثورة النبوغ المغربي المتعدد"
"المعسول" .. المختار السوسي يناصر "ثورة النبوغ المغربي المتعدد"

في 20 مجلّدا، أرّخ “المعسول” الذي خطّه العلّامة محمد المختار السوسي لجزء من الإسهام السوسي في “النبوغ المغربي” في الأدب العربي، بتأريخ أدب وأدباء منطقته بِإلِغ، الذين كتبوا بالعربية، موردا أخبار الفقهاء والأدباء والرؤساء والصوفية والأسر العلمية، ونماذج من الأدب المكتوب في منطقة سوس، بإلغ خاصة، ومن ارتبطوا بها، علما أنه قد أرّخ لبعض من كتبوا بالأمازيغية “الشِّلحيّة” كما كان يسمّيها، في مؤلّفات أخرى.

و”المعسول” ليس فقط مصدر معرفة أدبية وأنَسَابية ومصدر عادات وتقاليد وأفكار ومعتقدات واقتراب من علم وأخلاق خاطّه، بل هو أيضا شهادة ضد الاحتلال الأجنبي، الذي نفى كاتبه وسجنه، والوعي المتحقق بفعل الاصطدام بمعيشِه ومستجداته، وموقف لـ”الهامش” تجاه “المركز”، وتعبير عن الوعي الحضاري لكاتبِه الفقيه والمؤرخ والأديب والعلَم الوطنيّ والتعليميّ الذي قاوم “الحماية”، والذي كان أول وزير للأوقاف العمومية بعد الاستقلال، ووزيرا عضوا في مجلس التاج، وهو من الأعلام الذين ساهموا في النهضة الفكرية التجديدية للوعي المغربي إبان الاحتلال الأجنبي وبُعَيد الاستقلال، الذي وُوري الثرى 7 سنوات بعده.

مقصد الكتابة والاحتلال الأجنبي

من قلب منفاه بإلغ، الذي أجبره الاحتلال الفرنسي على المكوث فيه، كتب المختار السوسي خاتمة موسوعته التي سمّاها “المعسول”، خاطّا: “اليوم نجز بحمد الله كتاب (المعسول) بأقسامه الخمسة (…) ومتى انحلت العقدة. وأزيل عنا هذا الحصار الذي نحن فيه. نبذل جهودنا إن شاء الله في تحرير كل ما سودناه الآن. وتخريجه من مبيضته، وإدخال ما لا نزال نرجو إلحاقه بالأصل”.

قابل السوسي مقابلة دالّة وأخرى طريفة بين العالم الواسع ومنفاه وبين بكاء طفله والنغم المعاصر آنذاك: “أكتب هذا في دار أهلي بإلغ حيث جمعت من مواد الكتاب ما جمعت، وأنا في عزلة تامة عن العالم الذي يتلظى بهذه الحرب الثانية. وفي غربة أرخت على عزاليها. وأنا منفرد في غرفتي هذه البدوية الساذجة. وولدي عبد الله يقفز أمامي. وأخوه سعيد المولد لنا منذ شهور، يرقد في مهده. وأمه تحركه بيدها لينام، وهو لا يزال في بكاء مستمر. لكن لبكائه ألحانا ونغمات، وأنا أجد منها ما لا أجده من ألحان أم كلثوم. ومن نغمات عبد الوهاب. وعادتي أن أُشغل، وأفراد أسرتي الصغيرة يذهبون ويأتون حولي. وظهري إلى جدار”.

وتعدّدت مقاصد كتابة “المعسول”، وذكر محمد المختار السوسي في مقدمة الجزء الأول أن من بينها يقينه “أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا وأحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود. ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه. فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم. وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا. بل يسجل فيه كل ما كان ولو الخرافات، أو ما يشبه الخرافات، فإن نهم من سيأتون في الغد، سيلتهم كل ما يقدم إليه كيفما كان؛ ليستنتج منه ما يريد أن يعرفه عن ماضي أجداده”.

كما كتب أن ممّا غذّى الوعي بالحاجة لكتابته، أنه زار “الزاوية الدلائية” في سفح الأطلس الكبير؛ “فصرت أبحث هل أجد هناك أثرا من آثار أولئك العلماء والأدباء العظام؟ فلم أقع على أي أثر. فأغمضت عيني برهة فصرت أستحضر كل ما كنت قرأته من الكتب التي تحدثت عن هذه الزاوية. وعن أعمال رجالاتها. فإذ ذاك عرفت أن الخلود لأمثال هؤلاء لا يكون إلا بالتسجيل بالأقلام، فاختمرت هذه الفكرة في نفسي عن ناحية سوس، التي أعرف فيها من أمثال الزاوية الدلائية عشرات فعشرات”.

وفي خاتمة الموسوعة، ذكر الكاتب أن “الغرض الأساسي في الكتاب (…) تخليد أهل هذا البسيط (إلغ) في التاريخ. أداء لحق هذه الأسرة الصالحة العالمة، أسرة آل عبد الله ابن سعيد. ثم لما جمعت منهم، وممن يساكنوهم، أخبار صلحائهم وعلمائهم وأدبائهم ورؤسائهم ما أمكن، تعالت همتي أن أمد السماط لغيرهم من جميع السوسيين الذين يمكن لي أن أدخلهم في الكتاب”.
كما وضّح في محطة لاحقة أن مما حفّزه على التأريخ لمن وقع على شرطه الذي اشترطه على تدوين موسوعته “المعسول”، أن المؤرخين

الذين قرأ لهم مثل البعقيلي، والتامانارتي، والرسموكي، والحضيكي، والكرامي، والجشتيمي، والايكراري، وابن الحبيب، “منذ صاروا يكتبون عن رجالاتهم الإيجاز المطلق في تراجم من يترجمونهم في كتبهم. ويكون ذلك غالبا إيجازا مخلا لا يستفيد منه المطالع الباحث عن النواحي التي ترتكز عليها معرفة حياة الرجال. فكنت أتألم كثيرا متى احتجت إلى معرفة رجل من الرجال المذكورين في تلك المؤلفات التاريخية. حين لا أجد ما أتطلبه من الإحاطة بترجمة من أبحث عنه”.

وهذا الكتاب، وفق كاتبه: “ليس كتابا مدرسيا ينتقى له. بل كتاب تأريخ يحشر فيه كل ما أمكن كيفما كان جيدا أو غير جيد. ما دام عربيا وإن لم يكن من الواقع. فقد يستفيد المؤرخ من عبارات الرسائل الساذجة ما لا يستفيده من الرسائل الرائعة، كما أنني أذكر الصوفية كما هم في بيئتهم وعند معتقديهم فإن ذلك إن لم ينقل كما هو في بيئته لا يفيد المؤرخ (…) إلى أن يعلم عن ذلك الإقليم السوسي الذي هو أحد أقاليم المغرب كما يود لو يعلمه عن جميع الأقاليم المغربية. وأما غير المؤرخ. فإنه يعرف وينكر، ويقبل ويرد، ويستحسن ويستهجن، ويستغث ويستسمن، ولكنه إن أقر ما ذكرته آنفا من مقصودي في جمع الكتاب-على عواهنه-فإنه سيجدني موافقه في كل ما يقر عليه حكمه. ومن باع وبيّن عيوب مبيعه فإنه غير ملوم. ولو أنصف القراء لنظروا إلى الصحيح لا إلى السقيم، وإلى الصواب لا إلى الخطأ. لأن الإنسان مجبول على الأخطاء”.

المختار السوسي ناقدا المركز

من بين ما يثير الانتباه في خاتمة “المعسول”، ما كتبه المختار السوسي باسطا غبنا عاشه بفاس، وقد درس بـ”جامع القرويين”، مبيّنا إشكالات في تقدير غيرِ المنتمين إلى “المركز”، فاس العاصمة العلمية آنذاك أو المراكز الحضرية الناطقة بالعربية، وعدم استيعاب ما يصرفه السوسيون مثلا في طلب العلم، وما أنتجوه من أدب وعلوم.

وكتب المختار السوسي: “ينشأ الفاسي في بيئة تتكلم اللغة العربية الدارجة. يسمعها من أبويه ومن الخدم، ومن أقرانه في ملاعب الآزفة. ثم إذا دخل مكتب القرآن يجد في كتاب الله ألفاظا لا يغيب منها عن فهمه إلا بعض كلمات لا تستعمل في بيئته. ثم لا يكاد يدرك التمييز حتى ترى والده يصاحبه إلى مجالس العلم خصوصا بين العشائين، وإلى المساجد حيث يحضر خطب الجمعة. فيمكن له أن يفهم (…) ما يقوله الأستاذ في مجلس علمه. والخطيب في خطبته. هذا إذا كان والده عاميا. وإنما إن كان الوالد أحد العلماء، فإن الولد يسمع أيضا في وسط الدار العربية الفصحى من بعض العلماء الزائرين لأبيه. في أثناء المذاكرات مما لا بد أن يفهم منه القليل إن لم يفهم الكثير. ثم إذا جمع القرآن أو كاد يدفع به إلى تعلم أسس العربية الفصحى، فسرعان ما يتذوقها. فلا تمضي عليه إلا شهور حتى يعرف مواقع الكلام العربي المرتب بمرفوعاته ومنصوباته ومحفوظاته، ثم لا يقطع إلا شوطا أو شوطين حتى ترى كمه يتفتح عن الزهرة التي تتبعها الثمرة وشيكا”.

ثم استدرك قائلا: “وأما الشلحي البربري القح الذي يحيا في مثل جبال جزولة، الذي ينشأ في بيئة لغته الشلحية البعيدة عن العربية، فإنه قد يحفظ القرآن-وكثير منهم لا يستتمون حفظه إلا عند البلوغ أو أكثر-وهو لا يدري حتى معنى الخبز والسمن والبصل والحصير والفاس، لأنه ينشأ في إقليم منزو ومنكمش على نفسه، قلما يزوره عربي أجنبي عنه-كما هو الحال في جبال جزولة قبل الاحتلال-وقلما يخرج منه أهله إلا تجارا قليلين إذ ذاك. وهم الذين يلمون وحدهم بالعربية الدارجة، ويبقى سواهم مرتطمين في لغتهم الخاصة فمن حفظ منهم القرآن لا يفقه من معناه أي شيء ما لم يلم بدراسة العربية في المدارس”.

هكذا، “يكون حافظ القرآن الذي تبلغ سنه غالبا نحو ثمانية عشر عاما. فتراه إذا افتتح الآجرومية يتحير في معنى (الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع)، ثم يزداد تحيره يوم يغرق في (باب معرفة علامات الإعراب)، فلا يأخذ كل ذلك إلا تلقينا وتقليدا. وحفظا لما يكتب له (وقد يتم الآجرومية ثم يعيدها مع (الجمل) و(الزاوري) وهو لا يفقه ما يزاوله إلا توهما. وترديد كلمات يحفظها كالتصريف في (اللامية) على قواعدها. يلقنه إياها الأستاذ تلقينا ليجيب بها. وهكذا يسير كما يسير الأعمى المقود بيده وقد تمضي سنتان أو ثلاث وهو بعد بعيد عن تفهم ما يتعاطاه حق التفهم”.

وبعد استرسال في توضيح محطات طلب العلم وإتقان اللغة العربية، كتب المختار السوسي: “ذلك هو التلميذ الشلحي الذي تدرّس له العلوم العربية باللغة الشلحية على العادة، فيقرأ ‘الجرومية’ و’الألفية’ حتى ‘مختصر خليل’ بلغته المعتادة، فمتى يا ترى يتمكن في اللغة العربية؟ حتى إذا تمكن من قواعدها بكثرة الانكباب سنوات فإنه لا يتذوق لبابها وآدابها إلا بعد جهود أخرى بين تلاوات كتب أدبية كثيرة خارج الدروس المعتادة، كما هي عادة بعض المدارس (…) وبعد مدارسة أمثال المقامات، ولامية العجم، ولامية العرب، والشقراطيسية، وبانت سعاد، والهمزية، والبردة، وقلائد العقيان، وديوان المتنبي، والمعلقات السبع، وأمثالها مما يدرس في كل المدارس أو في بعضها. ثم لا بيئة عملية إلا في المدارس أو في مجلس العلماء. أثناء الدراسة فقط. وأما لغة التخاطب فهي اللغة الشلحية دائما”.

ثم قال الكاتب: “فلتسمع الآن أيها الفاسي ما يقاسيه صنوك السوسي في تطلعه إلى التمكن في اللغة العربية، والتضلع منها، حتى يمكن له أن سافر من بلده إلى (القرويين)، أن يجاورك في الأخذ عن أساتذة (القرويين) فربما لم يمض لك أنت في الدراسة إلا سنتان أو ثلاث، مع أنه مضى له هو فيها زهاء عشر سنوات. ثم لا يفوق مستواك غالبا. والعلة في ذلك ظاهرة بيناها غاية البيان. ومتى ظهر السبب، بطل العجب”، وواصل: “وبعد، أفلا تشكر هذا الجزولي المكب على العربية وأدبها حتى استطاع أن يتذوق منها بعد سنين كثيرة في فقر وإقلال في باديته القاحلة ما تتذوقه أنت، وأنت في أعظم حاضرة تجبى إليها ثمرات كل شيء. أفلا ينبغي أن تعبر ما كان يلاقيه حتى استطاع أن يتطلع إلى التعبير بالعربية وأن يقول فيها ما يقول، ميدانا عظيما تجلت فيه التضحية في أعلى مجاليها”، وبعد بيان سجّل أن الإصرار على إنكار العطاء السوسي للأدب العربي “إغماض في الحق. ونكران مجهود بعض الأمم دون بعض، وإشادة بقوم، واحتقار أمثالهم من أقوام آخرين”.

وبالتالي جاء “المعسول” ليعرف القارئ “أن هناك في قاصية الجنوب المغربي علوم عربية، وآداب مسترسلة، منذ أوائل القرن الخامس. يعتريها اتباعا للحركة العلمية المغربية العامة جزر ومد، وقوة وضعف، ولم يزل ذلك مسترسلا إلى الآن. وما هذا المجموع في هذا الكتاب إلا كعنوان لكل ما يروج في عصور مختلفة. خصوصا في الأجيال الأخيرة، فإذا قرأه قارئ أو قرأ بعضه إن لم يتركه ذوقه العصري أن يقرأه كله، أو تصفحه ورقة ورقة (…) ثم أدرك أن هناك منذ أوائل القرن الخامس في (سوس) علماء وأدباء عربيين كانوا يعيشون بالهواء المغربي في قرون مختلفة، كما عاش أمثالهم من العلماء والأدباء في الحواضر والبوادي التي في ضواحيها، وتحت أحضانها. إذا أدرك القراء (…) أن من في تلك الزاوية الجنوبية المغربية شاركوا أيضا في النبوغ المغربي في العلوم العربية وآدابها، فإن ذلك هو مقصودي الوحيد الذي انقطعت له منذ سنين”.
الوعي الحضاري للمختار السوسي

“بين الأمس والغد”، كتب محمد المختار السوسي في “المعسول” أن “من طبائع الأيام التحول من حال إلى حال؛ ففي كل يوم طلوعُ جديدٍ لم يكن معروفا، أو أفول معروف كأن لم يكن في يوم ما جديدا. فما يألفه الأجداد حتى يكون جزءا من حياتهم يكون عند الأحفاد منكورا. وما يكون منكورا عند جيل قد يكون عند جيل آخر مألوفا. وهذا ما يراه الإنسان في نفسه. فيكون في كهولته غيره في شبيبته، فكرا وذوقا ورغبة في شيء أو رغبة عنه؛ وهي أطوار جبلت عليها هذه الحياة. سنة الله في الكون ولن تجد لسنة الله تبديلا. والتحول في الهيأة الاجتماعية في غالب الأزمنة؛ يعهد منه أن يتتابع ببطء: حتى لا يكاد يفطن له إلا الإمعيون؛ حتى جاء هذا العصر؛ عصر الذرة والصواريخ، فإذا بها تكاد تتحول من حال إلى حال في طرفة عين، خصوصا في بعض الأقطار كقطرنا هذا الذي هجم عليه هذا العصر المسرع هجوما مباغتا؛ فإذا به بين عشية وضحاها كأنما انقلب رأسا على عقب”.

وفي حديثه عن “أمس”، ذكر أن “الحضارة الشرقية” كانت “هي المعروفة وحدها عندنا بأذواقها وآدابها وألوانها وهدوئها واتساع ساحتها. وهي التي استطاعت أن تلتهم حضارة فارس وبيزانطة. ثم تبلورت في دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة. ثم كان مغربنا هذا ممن له من إرث هذه الحضارة كنوز كاد يحافظ عليها وحده منذ أن انهارت الأندلس. واستولى التركيون على الشرق الأدنى كله ما عدا هذا القطر السعيد. الذي لم يعرف إلا الاستقلال منذ عرف الإسلام إلى الآن. فكان يعرف مقدار كنوزه هذه، ويعتز بكل ما فيها من ألوان وأفكار وفلسفة وعلوم وآداب ومعمار”.

ثم تابع: “أمس كانت عندنا تقاليد محترمة في اللباس، وفي اختيار التأثيث، وفي هيأة الجلوس، وفي إقامة الحفلات، وفي مزاولة الأعمال. فتكونت لنا هيأة اجتماعية توافقنا لأنها كانت متسلسلة عن الأجداد. لا يحس فيها بأنها تتغير في كل جيل، وإن كانت في الحقيقة لا بد أن يكون فيها تغير ما في كل جيل، فكانت لها موازين خاصة مألوفة، إليها يتحاكم ذوو الأذواق والأفكار عند الاختلاف. وقانونها (…) تلاءمت فيه مقتضيات حياتنا وديننا وعادات مجتمعنا تلاؤما تاما. دين العربية ولغة الدين. وعادات تكونت تحت نظرهما في قطر امتزج فيه العرب والبربر تمازج الماء القراح بالراح”.

أما حاضر المختار السوسيّ، فكتب عنه: “وفي هذا اليوم دهم علينا الاستعمار بخيله ورجله. بلونه وفكره. بسياسته ومكره. بحضارته المشعة. بعلومه الحيوية المادية. بنظامه العجيب، بمعامله المنتجة السريعة؛ بكل شيء يمت إلى الحياة الواقعية. فوقع لنا كما وقع لأصحاب الكهف يوم رجعوا إلى الحياة، فوجدوا كل ما يعرفونه قد تغير تغيرا تاما. وحين كان المغرب لقنا حاذقا سريع التطور، مندفعا إلى كل ما يروقه، أقبل بنهم شديد على التهام كل ما في هذه الحضارة الغربية العجيبة، التي تغير على جميع نواحي الحياة. فحدث من التغيير ما يجرف التقاليد والأفكار وكل ما يمت إلى العادات. فإذا بالمغرب يتحول في عهد قصير إلى مغرب آخر يغاير كل ما كان معروفا منه في الأمس”.

وشهد المختار السوسي المولود متم القرن التاسع عشر: “فإذا بأمثالنا نحن الذين كنا نعيش في شرخ شبابنا في المغرب المستقل قبل 1330 للهجرة، قد كدنا نكون غرباء في طور شيخوختنا في المغرب المستقل من جديد سنة 1375 للهجرة. فقد حرصنا أن لا ننكر إلا ما يستحق أن ينكر. وأن نحمد كل ما يمكن أن يحمد، واجتهدنا أن نساير العصر. وأن نتفهمه، فلا ننكر أخذ ما لا بد من أخذه من أساليب الحضارة ونظمها وعلومها-لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها-ولكننا مع ذلك نشاهد إسرافا في التحول السريع الذي لم يراع فيه-حسب أنظارنا نحن المسنين-حكمة ما بين التفريط والإفراط؛ فنحاول أن نجمع بين محاسن أمسِ واليوم”.

وبعد بيانٍ، وضح المختار السوسي أن أعظم ما يهتم له، ومن في حكمه، أمران: “أحدهما التفريط في المثل العليا التي لا ترسخ في الشعوب إلا بعد جهود قرون؛ ومتى اجتثت من أي شعب بمثل هذه الاندفاعات العمياء، فإن أبناء ذلك الشعب سرعان ما ينحرفون عن الصراط المستقيم في الحياة. وثانيهما التفريط في المحافظة على اللغة العربية وآدابها التي هي شعار المغرب وكنزه الموروث المحافظ عليه كلغة رسمية”، ثم أردف قائلا: “وليت شعري لما إذا كنا نحرص على الاستقلال إذا لم تكن أهدافنا المحافظة على مثلنا العليا المجموعة في أسس ديننا الحنيف؟ والمحافظة على هذه اللغة التي استمات المغاربة كلهم عربهم وبربرهم في جعلها هي اللغة الوحيدة في البلاد. ومعلوم ما للمغراويين والمرابطين والموحدين والمرينيين من تمجيد هذه اللغة وهي دول بربرية صميمة، وذلك هو موضوع العجب. وأما أن يحافظ الأدارسة والسعديون والعلويون عليها فإن ذلك أمر طبيعي. (…)”.

وما كان محمد المختار السوسي ليدوّن الأدب لمجرّد الأدب أو التاريخ لمجرّد التاريخ، وإن كان ذلك من أهم ما يقدّمه “المعسول”، بل خطّ أجزاءه العشرين في قلب منفاه، ثم أخرجها بعد الاستقلال من ماله الخاص، وهو متيقّن من “أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا وأحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود. ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه. فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم. وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا. بل يسجل فيها كل ما كان ولو الخرافات، أو ما يشبه الخرافات، فإن نهَم من سيأتي في الغد سيلتهم كل ما يقدم إليه كيفما كان؛ ليستنتج منه ما يريد أن يعرفه عن ماضي أجداده”.

قد تقرأ أيضا