أكاديميون ينعون المرسلي.. أحد أعمدة الدرس الفلسفي الحديث بالمغرب

أكاديميون ينعون المرسلي.. أحد أعمدة الدرس الفلسفي الحديث بالمغرب
أكاديميون ينعون المرسلي.. أحد أعمدة الدرس الفلسفي الحديث بالمغرب

نعى أكاديميون وأساتذة للفلسفة الفقيد عبد الحميد المرسلي، “أحد أعمدة الدرس الفلسفي الحديث بالمغرب”، الذي رحل عن دنيا الناس الأسبوع الجاري.

وقال الأكاديمي محمد المصباحي إن المرسلي “كان رجلا استثنائيا ابتداء من اختصاصه في فلسفة لايبنتز (…) وكان استثنائيا في التزامه ووفائه السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي، واستثنائيا في ذاكرته في مجالات السياسة والفلسفة والموسيقى والثقافة”، واستحضر سؤاله له مرة “عن موقف لايبنتز العدائي تجاه مصر؛ فراح يقدم لي تدقيقات ضافية ولا نهائية. مثلا كان يعرف جميع المطربين والممثلين المصريين مع سير حياتهم وحكاياتهم وقفشاتهم”.

وذكر المصباحي أن الراحل كان استثنائيا “في وفائه لأصدقائه؛ فمثلا كان يزور قبر المرحوم محمد وقيدي، الذي زامله في الدراسة في الثانوي في الدار البيضاء، كلما دعت مناسبة ذكراه، وكان استثنائيا في وفائه لأستاذه الفيلسوف محمد عزيز الحبابي. وهو بالإضافة إلى ذلك يتحلى بأخلاق عالية قل نظيرها”، وتذكر أنه “حينما قررتُ الانتقال إلى كلية الآداب بالرباط، طلبت منه أن يعوض دروسي فلم يتردد لحظة ورحب ببشاشته المعهودة”.

الأكاديمي محمد ابلاغ ذكر من جهته أن المرسلي “كان زميلا لي عندما كنت أدرس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، حيث كنا نتشارك معا الاهتمام بـ لايبنز، هو كمختص في الفلسفة الحديثة التي كان يدرسها بامتياز بشهادة طلبته، وأنا كمختص في تاريخ الرياضيات حيث كنت مهتما بامتدادات التحليل التوافقي في الرياضيات الكلاسيكية بين ظهوره في المرحلة العربية الإسلامية من تاريخ الرياضيات وتطويره في أبعاده الرياضية والميتافيزيقية من قبل لايبنز في أوروبا الحديثة.”

أما الأكاديمي عز العرب لحكيم بناني، فنعى “عبد الحميد المرسلي: الأستاذ، والأب، والمربي بشعبة الفلسفة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، بفاس”، قائلا: “كان أوَّل لقاء جمعني بالأستاذ عبد الحميد المرسلي يومًا مشهودًا في حياتي الجامعية بعد أن ألقيت أول درس خلال حصة الأستاذ عبد الحميد المرسلي ذات يوم من شهر أبريل 1988. كان المرحوم الأستاذ جمال الدين العلوي قد اقترح علي آنذاك إلقاء درس على الطلبة في فلسفة لايبنتز خلال حصة الأستاذ عبد الحميد المرسلي لطلبة السنة الثالثة فلسفة حديثة، بينما كنت قد تكلفت رسميا بتدريس مادة الأنطولوجيا لدى هيدغر لطلبة السنة الثانية، بعد أن درّس الأستاذ محمد المصباحي أطال الله في عمره نموذج أرسطو في النصف الأول من السنة.”

وتابع: “توطّدت علاقتي بالمرحوم عبد الحميد المرسلي فيما بعد، بعد أن علمت أنّه قد تفرّغ في دراسته الأكاديميّة لأعمال الفيلسوف الألماني لايبنتز، كما كنت معجبًا أيَّما إعجاب بمعرفته الدّقيقة بالحياة الثقافية، ولاسيما بالحياة الفنّية والأدبيّة والصحافية في مصر الشقيقة. وقد كان من بين المثقفين القلائل الذين يملكون اطلاعًا واسعًا على الإبداع الأدبي وعلى الحياة السياسية في مصر، كما كان يملك مكتبةً زاخرةً بكتب القصة والرواية والفلسفة التي ترجمت في بلاد المشرق.”

وذكر لحكيم بناني أن عبد الحميد المرسلي التحق “بشعبة الفلسفة لتعويض الأساتذة الأجانب الذين انتهت مدة تعاقدهم مع الوزارة الوصيّة”، كما كان “يشغل منصبا هامًّا بوزارة التربية الوطنية، مفتّشًا عامًّا للفلسفة، بعد أن كان قد التحق بالتعليم الثانوي أستاذًا للفلسفة منذ نهاية الستينات، وكان يتقاضى راتبًا مريحًا. ومع ذلك، تخلى عن كلّ الامتيازات التي كان يوفرّها التعليم الثانوي والتحق بالتَّعليم العالي في ظرفيّة دقيقة اتّسمت بالبحث عن التقشُّف الشَّديد في النًّفقات العموميّة. ورغم كلٍّ الصعوبات الجمة التي رافقت تطبيق سياسة التقويم الهيكلي، كان التحاقُ المرحوم عبد الحميد المرسلي وبعض أساتذة التعليم الثانوي بالجامعة، علاوةً على تكوين المكوّنين، من أهمِّ العوامل التي ساهمت في إنقاذ التعليم العالي من الانهيار.”

ثم استرسل قائلا: “لا شكَّ في أنَّ جهود الوافدين الجدد على الجامعة أثمرت في ملء الفراغ الذي تركه الأساتذة المتعاقدون؛ وفي الوقت ذاته كان تذمُّرُهُم من تراجع وضعيتهم المادية بالجامعة كبيرًا كذلك. غير أنَّ المرحوم عبد الحميد المرسلي، رغم هذه الظروف، ظلَّ يقدّر أهمية الأستاذ الجامعي، وظلَّ يمارس مهامه العلمية والتربوية بالجامعة بروح التفاني التي طبعته قبل ذلك في التعليم الثانوي.”

ولم يستفد الطلبة من كفاءته التَّربويّة فحسب، كمفتّش سابق بالتعليم الثانوي، وفق شهادة الأكاديمي بل “استفادوا كذلك من اطلاعه الواسع على أمّهات كتب الفلسفة الحديثة الصادرة بالفرنسيّة والعربية منذ أكثر من أربعين سنة. وكنت أشهد كيف أنه كان يضع عددًا ضخمًا من الكتب داخل سيارته ويزوّدُ بها الطلبة الذين كانوا يحتاجون إليها. وما زلت أذكُرُ أنه كان يضع في جيبه بطائق معلومات الطلبة حتّى يتعرَّف عليهم واحدًا واحدًا ويراعي ظروف كلِّ واحدٍ منهم. فلم يكن أستاذا فقط، بل كان كذلك أبًا عطوفًا على طلبته ومربّيًا سهر على تكوين الأجيال المتوالية قبل أن يُحال على التقاعد سنة 2005.”

وحول الحياة السياسية للفقيد، قال الشاهد: “كان المرحوم عبد الحميد المرسلي يتمتع بخصال حميدة كمناضل سياسي بمدينة فاس في عزّ الاحتقان السياسي خلال سنوات السبعينات، وكان من النادر أن تلتقي به دون أن يستدرجك إلى مناقشة فلسفية أو أدبيّة أو مناقشة في السياسة الدّوليّة. لم يكن المرحوم عبد الحميد المرسلي يخوض في أعراض الناس ولم يكن يحقد على أحد؛ كان يقضي سواد يومه في مكتبة الجامعة أو في مكتبات المدينة، ويتنقل بانتظام إلى مكتبات الرباط للاطلاع على المستجدات. كانت تربطه صداقة حميمة بالأستاذ عبد الرزاق الدواي، وكذلك بالمرحوم الأستاذ محمد سبيلا حينما كان أستاذًا بشعبة الفلسفة بفاس، وبالمرحوم محمد وقيدي. كان إنسانًا مرحًا، محبًّا للحياة وعاشقًا للفكر وكان يعشق رواية الطرائف دون ابتذال ولا إسفاف، ويعشق سماع الألحان النّادرة لمحمد عبد الوهاب.”

وختم الشاهد عز العرب لحكيم بناني شهادته بالقول: “كنت قد اتصلت به خلال الأشهر الماضية للاطمئنان على صحته بعد أن دخل العيادة لطارئ صحي، ولكنني فوجئت برجل ظل يتمتع بروح الفكاهة والسخرية من الأقدار وهو في عز المرض. (…) هذه شهادة زميل في حقّ زميل، وهي شهادة اعتراف بشمائل رجل لم ينصفه الدهرُ على حق قدره، وهي شهادة بسيطة بالمقارنة مع ما يمكن أن يقدمه طلبته وزملاؤه المقرّبون؛ وهي (شهاداتهم) ستكشف، لا شك في ذلك، عن جوانب مضيئة من حياة المرحوم عبد الحميد المرسلي لا يعرفها إلا هؤلاء.”

قد تقرأ أيضا