هكذا تواجه الجزائر تغير المناخ بوصفها قوة أفريقية متنامية (مقال)
ما يزال تغير المناخ من أكبر التحديات التي تواجهها الجزائر، إذ يهدّد بصورة متزايدة القطاعات الحيوية كالموارد المائية، والأمن الغذائي، والطاقة، ويضع ضغوطًا كبيرة على النظام البيئي والاقتصاد الوطني.
وعلى الرغم من التزام الجزائر بالمشاركة في الاتفاقيات الدولية لمكافحة التغيرات المناخية، مثل اتفاقية باريس، فإنها لا تزال تواجه صعوبة في تفعيل الإستراتيجيات الضرورية للتكيف مع هذه التغيرات.
وتتنوّع الإستراتيجيات التي تعتمدها الجزائر بين مشروعات التخفيف من الانبعاثات الغازية والتكيّف مع الجفاف والتصحر، لمواجهة تغير المناخ.
لكن هناك العديد من التحديات التي تقف أمام تنفيذ هذه الإستراتيجيات، مثل محدودية التمويل، وعدم تكامل جهود التنسيق بين الجهات المعنية، وصعوبة الوصول إلى الآليات المالية.
تأثير تغير المناخ في القطاع الزراعي
تغير المناخ يؤثر بوضوح في القطاع الزراعي لدى الجزائر؛ إذ يؤدي إلى اضطرابات في الدورات الزراعية وانخفاض في الإنتاجية، نتيجة للتغيرات في درجات الحرارة ونمط هطول الأمطار.
هذه الظواهر المناخية الشديدة تشمل الجفاف، والفيضانات، وموجات الحرارة، مما يزيد من التحديات أمام المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية.
الزراعة، التي تستهلك أكثر من 60% من الموارد المائية، تتطلّب زيادة الأراضي المروية إلى 1.56 مليون هكتار بحلول عام 2030.
ومع ذلك، يُتوقع أن تتراجع المحاصيل بنسبة تتراوح بين 15% و25%، ما يؤدي إلى خسائر تتراوح بين 3.2 و5.4 مليار دولار.
وستتأثر محاصيل رئيسية مثل الحبوب، والبطاطا، والبقوليات، بالإضافة إلى منتجات الثروة الحيوانية، مما يشكّل ضغطًا على فرص العمل والدخل في المناطق الريفية.
وتواجه الغابات الجزائرية، على غرار الغابات المتوسطية الأخرى، تحديات كبرى أمام تأثيرات تغير المناخ التي تطول 94% من الغابات والمناطق المحيطة بها.
ومن بين أبرز هذه التحديات، تكرار الحرائق السنوية، خاصة في شمال البلاد، حيث سُجلت خسائر تُقدر بنحو 330 ألف هكتار بين عامي 2004 و2020.
وفي سنة 2022 تضرّرت 100 ألف هكتار، وفي عام 2023 نحو 17 ألف هكتار، ورغم أن معظم الحرائق تُعزى إلى النشاط البشري، فإن تغير المناخ يزيد من حدّتها عبر موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة.
تأثير التغيرات المناخية في الموارد المائية
تتوفر الجزائر فيما يتعلّق بالموارد المائية على سقف سنوي يُقدّر بنحو 12.4 مليار متر مكعب، كما يُقدّر مخزون المياه السطحية بنحو 4.7 مليار متر مكعب.
بينما يبلغ استغلال الحقول الجوفية بنحو 7.5 مليار مليار متر مكعب (يُقدّر بنحو 2.5 مليار متر مكعب)، أما الجنوب فيُقدر بنحو 5 مليارات متر مكعب.
أما الموارد المائية غير العادية فيُقدر منتوجها بمليوني متر مكعب، وتغطي حاجات 17% من السكان.
يُقدّر الحجم الإجمالي للموارد المائية بالجزائر بنحو 19.2 مليار متر مكعب، تُغطّى من حيث المصدر بنسبة 33% من السدود، ونسبة 50% من المياه الجوفية، أما محطات تحلية المياه والمياه المعالجة فبنسبة 17%.
هذه الوضعية التي تضع الجزائر تحت حد الندرة في وفرة الماء المحدد دوليًا بنحو 1000 متر مكعب سنويًا لكل السكان؛ إذ يبلغ نصيب الفرد سنويًا نحو 500 متر مكعب.
لقد أثّر تغير المناخ في الموارد المائية، مما أسهم في تراجع نوعية المياه والمواد الهيدرولوجية نتيجة تدهور البنية التحتية، تُضاف إليها ظاهرة التملح (تداخل المياه البحرية وطبقات المياه الجوفية الساحلية)، وتآكل الخط الساحلي، مما أدى إلى انحساره.
إن تغير المناخ يهدّد قدرة هذه المناطق على تعبئة المياه، سواء التقليدية مثل السدود والآبار، أو غير التقليدية كتحلية المياه ومعالجة المياه العادمة. كما يتسبّب في تدهور جودة المياه المتاحة، مما يزيد من تحديات تلبية احتياجات مختلف القطاعات.
تأثير تغير المناخ في قطاع الطاقات
تتجلّى تأثيرات تغير المناخ في الأمن الطاقوي لدى الجزائر بزيادة ملحوظة في الطلب على الطاقة، خصوصًا في فترات الصيف، نتيجة لارتفاع درجات الحرارة وتقلبات الطقس.
هذه التغيرات تؤدي إلى استهلاك أكبر للطاقة؛ مما يضع ضغوطًا إضافية على الشبكة الكهربائية.
كما أن مصادر الطاقة التقليدية مثل الغاز والنفط تأثرت سلبًا؛ إذ يمكن أن تؤدي التغيرات المناخية إلى تقليص الإمدادات أو زيادة التكاليف المتعلقة بإنتاجها.
ففي قطاع الطاقة الكهرومائية أدى تغير المناخ إلى انخفاض موارد المياه العذبة بنحو 30%، ما أثر في قدرة الجزائر على توليد الطاقة من السدود.
بالإضافة إلى ذلك، تُسهم موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة في زيادة تكاليف إنتاج الغاز والنفط، وتقلّص القدرة على الاستخراج، مما يضيف مزيدًا من الضغوط على القطاع.
وبالنظر إلى المستقبل، فمن المتوقع أن يشهد الطلب المحلي على الطاقة ارتفاعًا سنويًا يفوق 6%؛ مما يعزّز الضغط على الموارد ويقلّل من كميات الطاقة الموجهة للتصدير.
الإستراتيجية الوطنية للتكيف مع تغير المناخ
تُعد "الخطة الوطنية للمناخ" في الجزائر الإطار المرجعي الرئيس لإستراتيجية البلاد في مكافحة تغير المناخ.
هذه الخطة تُترجم التزامات الجزائر في مجالي التكيف مع التغيرات المناخية والتخفيف من انبعاثات غازات الدفيئة إلى إجراءات ملموسة.
وتتضمّن الخطة 155 إجراءً، منها 63 إجراءً للتكيف مع التأثيرات المناخية، و76 إجراءً للتخفيف من الانبعاثات، بالإضافة إلى 16 إجراءً عبر القطاعات المختلفة لتحقيق الأهداف المناخية الوطنية والدولية.
تسعى الجزائر من خلال إستراتيجياتها الوطنية للتكيف مع تغير المناخ إلى حماية الموارد الطبيعية والبنية التحتية وضمان استدامة الاقتصاد الوطني.
وتركز هذه الجهود على تقليل الانبعاثات من غازات الدفيئة والإسهامات الفعالة في الجهود العالمية لمكافحة مسببات تغير المناخ.
كما تعمل الجزائر على تعزيز التكيّف المؤسساتي والتنظيمي، لدمج القضايا المناخية في السياسات الوطنية والمحلية.
في عام 2018، أطلق المركز الوطني للتغير المناخي خطة التكيف الوطنية بصفتها جزءًا من الخطة الوطنية للمناخ، بالتعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.
وتهدف الخطة إلى تعزيز قدرة الجزائر على مواجهة التغيرات المناخية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، مع التركيز على الحفاظ على البيئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتنمية المجتمعات، وتحفيز الابتكار الاقتصادي بما يتماشى مع مبادئ الاستدامة.
تعمل الجزائر على التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها من خلال إستراتيجيات تشمل عدة وزارات تعمل في مجالات مختلفة.
الوزارات المعنية بالتخفيف من الانبعاثات تشمل الطاقة، والصناعة، والنقل، والإسكان، والزراعة، والصيد، والغابات، والبيئة؛ إذ تركز على الحد من الانبعاثات الناجمة عن القطاعات الصناعية والزراعية.
أما الوزارات المعنية بالتكيف مع تغير المناخ فهي الموارد المائية، والزراعة، والغابات، والصيد، والداخلية، والنقل، والصحة العامة، التي تعالج تأثيرات تغير المناخ في البيئة والصحة العامة وإدارة الموارد الطبيعية.
بالإضافة إلى ذلك، هناك وزارات تعمل على الجانبين، التخفيف والتكيف، مثل وزارة الدفاع الوطني، والمالية، والتجارة، والتعليم العالي، والتعليم الوطني، والبحث العلمي، والإعلام، التي تُسهم في جمع البيانات والإحصاءات ودراسات تغير المناخ.
نحو تحقيق الأمن المائي
في عام 2015، حُدّثت الخطة الوطنية لمكافحة التلوث البحري ضمن إطار اتفاقية برشلونة لحماية البحر الأبيض المتوسط، وفي سنة 2016، أُطلقت الخطة الوطنية للمياه والصيد لتعزيز الاستدامة في قطاع الصيد البحري في الجزائر، بهدف تحسين إدارة الموارد المائية والبحرية.
وفي عام 2021، اُعتمدت إستراتيجية الاقتصاد الأزرق الوطني التي تهدف إلى تنظيم استغلال الموارد البحرية بصفة مستدامة وتعزيز التنمية الاقتصادية في القطاع البحري.
كما تم تبني الإستراتيجية الوطنية للمياه 2021-2030، بهدف ضمان استدامة استغلال الموارد المائية وتوفيرها لتلبية الاحتياجات القطاعية والمحلية.
وتقوم الإستراتيجية على 3 ركائز أساسية:
- أولاً: تحلية مياه البحر لتلبية احتياجات السكان من المياه الصالحة للشرب.
- ثانيًا: تصفية المياه المستعملة؛ إذ يتم تخصيص مليارَي متر مكعب سنويًا للسقي، مع التركيز بصورة خاصة على الأشجار المثمرة.
- وأخيرًا: ترشيد الاستهلاك الذي يُعد ركيزة أساسية لزيادة الوعي المائي والحفاظ على هذا المورد الحيوي.
وتهدف الإستراتيجية إلى تحقيق عدة أهداف، منها تحفيز الاستثمار في مجال الموارد المائية، وتخفيف الضغط على الموارد المائية خاصة في المناطق الشمالية التي تشهد أعلى كثافة سكانية، وحماية الموارد المائية من التلوث والحد من استنزافها، بالإضافة إلى ترشيد استهلاك المياه بصفة مستدامة وتحقيق الأمن المائي.
تحقيق الأمن الغذائي
لمواجهة تغير المناخ وتحقيق الأمن الغذائي، تبنّت الجزائر إستراتيجيات للمدة 2020-2030 تركز على الاستدامة وحماية الموارد الطبيعية من خلال ترشيد استهلاك المياه، وإعادة تأهيل الغابات، وتعزيز الطاقة المتجددة، وتطوير الزراعة العضوية.
كما تم العمل على مبادرات أخرى، مثل إنشاء بنك الجينات الوطني، ودعم المنتجات الزراعية المحلية ذات الأثر البيئي المنخفض.
وأعادت الدولة الجزائرية أيضًا إحياء مشروع السد الأخضر في إطار جهودها لمواجهة تغير المناخ، خاصة بعد تزايد حرائق الغابات التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، ويُعد هذا المشروع، إلى جانب كونه مقاربة تنموية شاملة مستدامة، اجتماعيًا واقتصاديًا وبيئيًا.
من الأدوات الرئيسة التي تُسهم في وفاء الجزائر بالتزاماتها الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر التي انضمت إليها في عام 1996، واتفاقية باريس لعام 2015 التي تهدف إلى خفض الانبعاثات بحلول عام 2030، بالإضافة إلى أهداف التنمية المستدامة الـ17.
تحقيق الأمن الطاقوي
يُعد قطاع الطاقة المصدر الرئيس لانبعاثات غازات الدفيئة في الجزائر؛ لذا تم الاعتماد على نظام الرصد والتقرير والتحقق (MRV) الذي يُعد أمرًا حيويًا في تتبع انبعاثات الجزائر وضمان الالتزام بأهدافها المناخية.
ويتم سنويًا إعداد التقرير السنوي للميزان الطاقوي الوطني الذي تشارك فيه العديد من الأطراف والمؤسسات الوطنية: الوكالة الوطنية لترشيد استخدام الطاقة، والهيئة الوطنية لتنظيم الموارد المائية، والوكالة الوطنية للمصادر البترولية، ولجنة تنظيم الكهرباء والغاز، وشركة النفط الوطنية (سوناطراك)، وشركة توزيع الغاز والكهرباء (سونلغاز).
كما تُعِد كل من الهيئة الوطنية لتنظيم الموارد المائية ولجنة تنظيم الكهرباء والغاز تقريرًا سنويًا لانبعاثات غازات الدفيئة في مجالي النفط والغاز والكهرباء.
الجزائر تُعد من أكبر دول البحر المتوسط التي تمتلك إمكانات ضخمة في مجال الطاقة الشمسية؛ إذ تتمتع بظروف مناخية مثالية تشمل سطوع الشمس لمدة تصل إلى 10 ساعات يوميًا. كما صنّفها البنك الدولي ضمن 20 دولة تتمتع بإمكانات في الطاقة الشمسية والهيدروجين على مستوى العالم؛ مما يعزّز من مكانتها في هذا القطاع الحيوي.
لقد أطلقت الدولة الجزائرية العديد من مشروعات الطاقات المتجددة، في إطار سعيها لتنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، إذ يُسهم هذا التحول في تقليل انبعاثات غازات الدفيئة وتقليص بصمتها الكربونية.
وتتعدّد الإجراءات التي تتبناها الجزائر لتعزيز كفاءة الطاقة وترشيد استهلاكها. يشمل ذلك تبني تقنيات البناء الحديثة مثل العزل الحراري لتقليل استهلاك الطاقة، بالإضافة إلى تعميم استهلاك الكهرباء في وسائل النقل الجماعي، مثل الحافلات والمترو بدلًا من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
كما يجري تحويل العديد من المركبات إلى العمل بغاز النفط المسال (جي بي إل)، وهو خيار أقل تكلفة وأكثر وفرة، في حين يتم العمل على توسيع استعمال السيارات الكهربائية في المستقبل.
من جهة أخرى، تهدف الجزائر إلى إعادة النظر في سياسة دعم أسعار الطاقة لتقليص التبذير الناتج عنها. بالإضافة إلى ذلك، تُنفّذ البلاد البرنامج الوطني لإنتاج 15 ألف ميغاواط من الطاقات المتجددة، مع التركيز على تطوير برنامج الهيدروجين الأخضر في مجالات الإنتاج والتخزين والاستهلاك.
في ظل التحديات البيئية المتزايدة التي تفرضها آثار تغير المناخ، تظهر الجزائر عزيمة قوية في مواجهة هذه التحديات، عبر سياسات طموحة تستهدف الحد من التأثيرات السلبية في البيئة والموارد الحيوية.
ومع تطلّع الجزائر إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتعزيز استعمال الطاقة المتجددة، إلا أن التمويل، سواء من المصادر المحلية أو الدولية، يشكّل عائقًا رئيسيًا أمام تنفيذ إستراتيجيات التخفيف والتكيف مع آثار تغير المناخ.
فالتمويل غير الكافي يؤثر بصفة مباشرة في قدرة البلاد في إنجاز مشروعات مهمة مثل الطاقة المتجددة، والزراعة المستدامة، وبرامج التكيف مع التصحر والجفاف.
وعلى الرغم من التزام الجزائر بالاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ، فإن الوصول إلى آليات التمويل الدولية، مثل الصندوق الأخضر للمناخ، يبقى معقدًا ويشكل تحديًا كبيرًا، بسبب الإجراءات المعقدة المطلوبة لتقديم المشروعات التي قد تؤهل البلاد للحصول على التمويل الدولي.
إن تعزيز التنسيق بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمنظمات الدولية، بالإضافة إلى تحسين آليات التمويل، يعدان من العوامل الأساسية لتحقيق الأهداف المناخية المنشودة. إذا ما تمكّنت الجزائر من معالجة هذه التحديات، فإنها ستكون قادرة على تحقيق تحوّل بيئي واقتصادي يدعم استدامتها في مواجهة تغيرات المناخ المستقبلية.
* د. منال سخري، أستاذة وخبيرة في السياسات البيئية والتنمية المستدامة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..